المحتوى الرقمي زمن الفتن

بقلم زكرياء لعروسي الخميس 15 مايو 2025

 

 تعيش منصات التواصل الرقمي، في زمن الفتن القيمية.. هيجان الصراع بين الخير والشر، في بحر تتلاطم أمواجه في ظلمات بعضها فوق بعض، فما عاد المتلقي يميز صدق القول من زور الحديث، ولا بياض الحق من سواد الباطل.

ووسط هذا البحر الزاخر بالأخبار الكاذبة والادعاءات والتشهير، تظل القيم الإنسانية والروحية وصدق الإيمان سفينة نجاة، تعصم المجتمعات من طوفان يسعى إلى هدم أخلاقها وإفساد إنسانها، كما تعصم السفينة نوحًا ومن معه من المؤمنين حين أغرقت الفتنة من كان خارجها

. إن المحتوى الرقمي أصبح صحراء قاحلة، يختلط فيها السراب بالحقيقة، والسراب أصبح للبعض أشد إغواءً وإغراءً من الحقيقة ذاتها، تضِل فيه أقدام التائهين، وتتوه فيه عقول الحائرين، فلا تكاد تبصر في رماله الممتدة إلا خيوطًا واهية من الأكاذيب تتبدد كلما اقتربت منها.

وها هو الإنسان، الذي لم يتسلح بالقيم والتصديق وصدق الطلب، في هذا الفضاء الإلكتروني تائه بين أوهام مزخرفة وإشاعات مغلفة، تتلاطمه أمواج الحيرة والشك والريبة. لقد استشعرت مؤسسة الملتقى خطورة هذا الواقع، خصوصا في طرحها العلمي ضمن سلسلة ندوات ولقاءات رمضانية، اختتمت بندوةً كبرى في رحاب المكتبة الوطنية بالرباط بعنوان "القيم في مواجهة تحديات المحتوى الرقمي"، واستلهمت في طرحها قوله تعالى: "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء"، مؤكدة على ضرورة غرس القيم في المحتوى الرقمي حتى يؤتي ثماره الطيبة في وعي الإنسان وسلوكه.

وتميز هذا الورش العلمي بمقارباته متعددة الأبعاد، حيث طرحت القضية من زوايا فلسفية وقانونية واجتماعية، وشارك فيها علماء وقضاة وأكاديميون ومؤثرون رقميون، ما أضفى على النقاش طابعا تفاعليا متوازنا يجمع بين المعرفة النظرية والخبرة العملية، فأجمعت المداخلات على أن تأطير حرية التعبير بمعايير أخلاقية تحمي الأفراد من العدوان الرمزي وتضمن بيئة رقمية مسؤولة.

وقد أصل الدكتور مولاي منير القادري بودشيش خلال هذه اللقاءات للسبيل القويم لصناعة محتوى رقمي هادف وبناء، ودعا إلى أهمية تحويل المحتوى الرقمي إلى أداة لبناء الإنسان، تحترم كيانه وتصون حرمته.

وتوقفت كلمته عند جوهر الرسالة التي ينبغي أن يحملها الإعلام الرقمي، وهي ترسيخ المعاني التي تسمو بالنفس وترتقي بالعقل. كما نبّه مولاي منير إلى أن الإنسان حُمّل أمانة الكلمة كما حُمّل أمانة الاستخلاف، ومن ثم فإن صناعة المحتوى مسؤولية أخلاقية عظمى وأمانة قيمية كبرى. ودعا إلى استعادة البُعد التربوي والروحي في الفضاء الرقمي، حيث لا يضيع الحق في ضجيج الباطل، ولا تُحجب الحقيقة وراء دخان الإثارة، مستنيرًا بمرجعية أخلاقية راسخة قوامها حفظ القيم الروحية  والمشتركات الإنسانية والحياة الطيبة والتبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة.

وشكلت هذه اللقاءات نموذجا فكريا وروحيا لمواجهة الانحطاط القيمي في الفضاء الرقمي، فعبّرت عن وعي عميق يسعى إلى بناء خطاب رقمي بديل، يرفع من شأن الإنسان ويصون كرامته، ويؤسس لمجتمع معرفي ينبض بالقيم، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. لقد دخل الوعي الجماعي زمنا ينفع الصادقينَ صدقُهم.. زمن يحتاج الروية والحكمة والثبات مع أهل الحق والصدق.. زمن البحر الرقمي الهائج بالفتن والادعاءات الباطلة.. "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ".

أصبح المحتوى الرقمي سوقًا تباع فيه كرامات الناس، بثمن بخس، وتُشترى فيه الذمم بمقابل قليل دراهم معدودات.. ليلٌ مظلمٌ غاب عنه نور الأخلاق، وتوارى نجم الصدق خلف غيوم التضليل، فأضحت منصات التواصل منابر لنشر الفتن وزرع الشقاق، تغذي الكراهية وتطفئ نور المحبة والوئام، كمن استوقد نارًا "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون".

إن ظاهرة التشهير وانتشار الأخبار الكاذبة تجاوزت نطاق الأخطاء الفردية، وتحولت إلى جائحة أخلاقية تجرف في طريقها الكثير من قيم المجتمع، وتترك ندوبًا في القلوب وتصدعات في البنية الاجتماعية. إن الحكمة ضالَّة المؤمن، أَنَّى وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وأستحضر في هذه الصدد تقاطع هذه الرؤية مع الفلسفة الأخلاقية، كما طرحها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، والذي اعتبر الواجب الأخلاقي أساسا للسلوك الإنساني؛ فالأخلاق وفقًا لكانط تتجلى في النية الصادقة والالتزام بالواجب، وهو ما ينطبق تماما على صناعة المحتوى الرقمي في هذا الزمن؛ إذ يجب أن يكون دافعها نية احترام الكرامة الإنسانية.

أكدت المواثيق الدولية على ضرورة حماية الأفراد من الإساءة والتشهير، ومن ذلك ما ورد في المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، والتي تنص على أن "لكل شخص الحق في ألا يتعرض لتدخل تعسفي في حياته الخاصة..."، كما نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 في مادته 17 على ضرورة الحماية القانونية من التعرض غير المشروع للسمعة والكرامة. ومن المهم استحضار المقاربة التربوية وأدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمجتمع المدني في ترسيخ المسؤولية الأخلاقية باعتبارها شريكًا أصيلًا في الحرية، تُضفي عليها الاتزان والسمو، ليصبح المحتوى الرقمي مجالًا لنشر القيم، ومصدرًا لبناء وعي جماعي متماسك، لا تهزه الشائعات ولا تنال منه الأكاذيب، وكأنما أُسِّس على التقوى من أول يوم.

إن غرس القيم في المحتوى الرقمي يعكس حاجة حضارية وأخلاقية تمليها كرامة الإنسان ومصير المجتمعات؛ فالمحتوى المسؤول يعبر عن ضمير المجتمع، ويساهم في بنائه وإعادة تشكيله في أفق الوعي والاحترام. ومن شأن المبادرات التي أطلقتها مؤسسة الملتقى وأمثالها أن تعيد رسم خارطة القيم الرقمية، وتغرس في هذا الفضاء الممتد جذورًا أخلاقية، تنبت ثمارًا من العدل والكرامة والسموّ، كالغيث ينزل من السماء فيحيي الأرض بعد موتها.

 إن الإنسان الذي يفقد صوته الأخلاقي والحكمة الجِبلية في هذا الزخم الرقمي، يفقد جوهر الروح الصافية الطاهرة، فالكلمة التي لا تحمل نورًا، تُطفئ في الآخرين شموع المحبة، والمحتوى الذي لا يساهم في تزكية الروح، يُسهم في تعتيم العتمة.  لقد آن لهذا الفضاء الافتراضي أن يُصبح مجالًا لتجليات القيم، ولنشر المحبة والإخاء، لا منابر للتضليل والافتراء، وأن يكون امتدادًا للضمير الحي، لا قبراً له؛ فكل محتوى لا يُنقذ الإنسان من الغفلة والظلمة، هو سهمٌ آخر في نعشه، وكل محبة لا تكون جامعة لا يعول عليها...!