مرة أخرى، تُختزل الحياة الدستورية للبلاد في سلسلة من الشائعات الرخيصة، ومضمار للتأويلات الشعبوية التي تتغذى على عطالة العقل وتواطؤ المنصات "الرقمية" مع منطق الإثارة وتكديس النقرات. إذ قبل صدور البلاغ الملكي عقب انعقاد المجلس الوزاري، بدا المشهد الإعلامي وكأنه ساحة مفتوحة أمام هرطقة هجينة، يتصدرها سماسرة التسريبات وخدام اللحظة الرقمية، يلوكون أخبار "الإعفاءات والتعيينات" بلغة ملغومة، دون اعتبار لمكانة الدولة أو رمزية القرار السياسي السيادي.
ما يُثير القلق في هذا الانفلات، ليس مجرد اختلال أخلاقي في التعاطي الإعلامي مع مؤسسة التعيين، بل هذا الميل المريب نحو تحويل القرار السيادي إلى مادة استهلاكية، تُجتزأ من سياقها الدستوري وتُزجّ في دوامة من الإشاعة والتأويل الفج والخبر الزائف. فحين تتحوّل لحظة التعيين، بما تحمله من رمزية سيادية وتقدير دقيق للمصلحة العامة، إلى "سبق صحفي" بائس يُطلق من منابر الوهم، فإننا نكون أمام شكل من أشكال تمييع الفعل السياسي وتحريفه عن مقاصده النبيلة.
إن الدستور، الذي انتزعه الشعب المغربي بتضحيات قواه الحية، لم يُشرّع سلطة التعيين عبثاً، بل أسندها إلى رئيس الدولة بصفته ضامناً للتوازنات الكبرى ومؤتمَناً على استقرار المؤسسات. هذه السلطة ليست عرضة للمضاربة ولا مادة للتأويل الاعتباطي، بل قرار سيادي يتغيا خدمة الصالح العام، ويُصاغ في كنف الحكمة، خارج منطق السوق الرقمي أو نوازع الانتشاء الفارغ بـ"الترند".
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
والأنكى أن ما يُروَّج له لا يكتفي بتجاوز دوره الإخباري، بل يتطاول على المؤسسات حين ينصب نفسه مرجعاً لتوزيع شهادات الكفاءة والولاء والخيانة. إنها سلطة موازية تُمارس في الظل، دون تفويض أو مساءلة، تنتشي باللعب في الهامش، وتؤسس لثقافة تآكلية لا تعترف بشرعية المؤسسات، بل تُفضّل أن تعبث بخيوطها من وراء الستار.
لسنا هنا بصدد محاكمة النوايا، ولكن واجب القول يحتم التنبيه إلى أننا نعيش لحظة خطرة، تنزلق فيها بعض أدوات الإعلام نحو ضرب أحد أعمدة البناء الدستوري، تحت غطاء "حرية التعبير" التي تحوّلت في بعض الحالات إلى غطاء للعدمية والانحراف. ومن المؤسف أن يستسهل بعض من يدّعون الانتماء للحقل الإعلامي الترويج لخطاب يُقزِّم القرار الملكي، ويُجرده من دلالته الرمزية والسياسية، في مشهد يُقوِّض ما راكمناه من نضالات لأجل صحافة وطنية ملتزمة.
إن المطلوب اليوم ليس الصمت أمام هذا الانحدار، بل استعادة المعنى الحقيقي للإعلام، كأداة تنوير لا وسيلة تشويش، وكرافعة وعي لا كوابح تخريب. فالقرارات السيادية لا تُختزل في منشور فايسبوكي ولا في هذيان يوتيوبي، بل تصدر عن مؤسسة شرعية تستند إلى العمق الدستوري للمؤسسة الملكية، وإلى فلسفة الدولة التي يُفترض أن نُسهم جميعاً في حمايتها من الابتذال والتبسيط المخل.
وفي الأخير، لا يسعنا إلا أن نُذكِّر بلغة هذا الشعب العميقة: شهوة مول المظل، يمشي فالشمس ولا يمشي فالظل. فهكذا تُدار الأمور في الدول التي تحترم ذاتها، لا بفتاوى اللايفات، ولا بإدمان الإساءة الممنهجة للدلالة السياسية للقرار السيادي.
* أكاديمية