متى كان اليسار خديما للظلام

بقلم: ايمان الرازي* الثلاثاء 06 مايو 2025
IMG-20250506-WA0099
IMG-20250506-WA0099

لم يكن حديث عبد الصمد بلكبير عن عبد الإله بن كيران مجرد موقف عابر، بل هو تعبير مكشوف عن ذلك الميل المتزايد لدى بعض مثقفي الانحدار إلى تبرير الشعبوية، وتمييع القيم السياسية الأصيلة التي شكلت، لعقود، حجر الزاوية في بناء الوطنية المغربية النزيهة والنظيفة. ففي الوقت الذي ننتظر فيه من مثقف يساري مخضرم أن يمارس المسافة النقدية مع مسارات انحدارية طبعت تجربة الإسلام السياسي في الحكم، إذا به يبرر الانكفاء الأخلاقي والانحدار الخطابي، ويقايض ذاكرة المغاربة بما يسميه "كاريزما الرجل" و"خروجه من السلطة دون ثروة". لكن هل يكفي ألا يخرج المسؤول من السلطة بثروة حتى يُنصَّب في مصاف الرموز الوطنية؟ وهل تصير أخلاق السياسة مجرد "عدم سرقة" في مقابل التبرير العلني للعبث المؤسساتي وامتهان آلام الشعب باسم النكتة والسخرية؟

عندما نستحضر رجالات الدولة حقا، فإن اسم عبد الرحمان اليوسفي يفرض نفسه دون ضجيج ولا وساطة إعلامية. رجل لم يُسجَّل عليه أنه طالب معاشا استثنائيا، ولم يُعرف عنه أنه ابتز الدولة أو ساوم المؤسسات، ولم يقايض عزة نفسه بمقعد أو حساب. عبد الرحمان اليوسفي كان من طينة الكبار الذين يفهمون السياسة كفن نضالي نبيل، لا كبوق خطابي في المقاهي ولا كفرجة غوغائية في مواقع التواصل. لم يتحدث يوما عن لقاءاته مع الملك رغم أنها كانت حاسمة، ولم يسع إلى تسريب أسرار المجالس أو استثمارها لبناء هالة وهمية حول شخصه. مارس السياسة بصمت الكبار ونظافة المقاومين، وخرج من الوزارة الأولى كما دخلها: نظيف اليد واللسان، مترفعا عن السباب، ومحترما لاختيارات المغاربة، مهما اختلف معهم.

أما بن كيران، الذي يدافع عنه بلكبير اليوم وكأنه رمز نادر، فلا يمكن أن يُقارن بمن هم أكبر منه قامة وأعمق تجربة. رجل أفرغ السياسة من جوهرها، وحولها إلى منبر استعراضي للسباب والنكت السمجة. لا يعترف بقيمة الفعل الجماعي ولا بالمسؤولية المؤسساتية، ويعتبر نفسه وصيا على ضمائر الناس وخياراتهم، حتى إنه لم يتردد في سب كل من خالفه، وادعى امتلاك الحقيقة المطلقة. ثم يأتي من يصفه بالزاهد لأنه لم يغتنِ من السياسة، متناسيا أن الزهد الحقيقي لا يقاس بالماديات فقط، بل يقاس أيضا بنظافة الخطاب، وبالصدق في المواقف، وبالاستقامة في العلاقة مع الدولة والمجتمع.

إن تحويل بن كيران إلى قديس شعبي، وتلميعه بوصفه "صادقا" لأنه "يتكلم بعفوية"، هو في الحقيقة تبرير للرداءة السياسية، وإهانة لذاكرة نضالية عميقة، كان من بين رموزها عبد الرحمان اليوسفي، الذي اختار الصمت المربك على الصخب المدوي، والاحترام على التهريج، والوطن على الذات. لقد ظل اليوسفي وفيا لفلسطين دون أن يتاجر بها، ولم يحوّل قضيتها إلى سوق شعبوية، ولم يساوم بها أحدا. ووقف إلى جانب المستضعفين دون أن يرفع الشعارات الفارغة، لأنه كان يدرك أن فلسطين في قلب كل مغربي، وأن المزايدة على حبها خيانة للقضية لا نصرة لها.

إن الاحتفاء ببن كيران على هذا النحو المهين لذاكرة المغرب السياسي، لا يخدم إلا التيارات التي حولت الدين إلى مطية سياسية، وحولت البرلمان إلى سيرك، والمجتمع إلى جمهور مشدوه ينتظر النكتة التالية. ومهما حاول عبد الصمد بلكبير أن يلبس بن كيران جبة "الشعبوي النزيه"، فإن الزمن السياسي لن يغفر لهذا التيار ما اقترفه في حق المغاربة، حين تحالف مع المخزن لضرب الحركات الاجتماعية، وحين تقشف على الشعب وهادن الفساد، وحين استبطن الاستبداد باسم "المصلحة العليا".

لقد خسرنا الكثير يوم تخلّى المثقف اليساري عن سلاح النقد، وتورط في تبرير من لا يستحق التبرير، وصار يدافع عن منطق الزعيم الفرد بدل مشروع التحرر الجماعي. والمثير للشفقة أن بلكبير، الذي كان بالأمس ينظّر للتحرر من التبعية، صار اليوم يعيد إنتاج ثقافة التبجيل، ويشرعن لتجربة بن كيران كأنها فتح سياسي عظيم. إننا لا نطلب من أحد أن يكره بن كيران، ولكن نطلب فقط ألا يُستهان بذكاء الناس إلى درجة تبرير كل شيء، وألا يُنسى أن بين عبد الرحمان اليوسفي وعبد الإله بن كيران مسافة أخلاقية وتاريخية لا تختصرها اللغة، ولا تقيسها سوى ضمائر الأحرار.