في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتقاطع فيه المعلومة مع الإشاعة، لم تعد حرية الصحافة وحدها كافية لتأمين إعلام مهني يخدم المجتمع ويحترم كرامة أفراده، كما أنها لم تعد شرطا وحيدا في أي ممارسة صحفية، ما دام أنها تصبح عبثية إن لم ترفق بإطار قيمي وأخلاقي واضح يؤطرها ويكبح انزلاقاتها.
في السياق المغربي، لا أحد ينكر ما تحقق من مكتسبات على مستوى حرية الرأي والتعبير، وما أحرزته التشريعات من تقدم، خاصة مع صدور مدونة الصحافة والنشر، إلا أن هذا التقدم لم تتم مواكبته بثقافة مهنية راسخة، والنتيجة كانت مفارقة صادمة: صحافة تتمتع بهامش كبير من الحرية، لكنها، في بعض الحالات، تسيء إلى رسالتها وتشوه صورتها في أعين المجتمع.
وبالتالي، فالاختلال الأكبر، اليوم، لا يكمن بالدرجة الأولى في النصوص والتشريعات، التي بدورها تحتاج للتحيين، بل يكمن بالمقام الأول في الممارسة، لأنه حين تغيب المسؤولية الأخلاقية، تتحول الحرية إلى سلاح مرتد، قد يسقط الضحايا بدلا من أن ينير الرأي العام، مثلما نعاين عندما ينتهك الحق في الصورة، وتداس الحياة الخاصة، وتستعمل المنصات الإعلامية للتحريض أو التشهير، دون مراعاة لتبعات ذلك على الأفراد أو على النسيج المجتمعي ككل.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
ولعل أخطر نتيجة لذلك هو ما نشهده اليوم من تآكل للثقة بين المواطن والصحافة، بعدما تراجعت مكانة الصحافي، ليس بسبب تراجع الحريات، بل نتيجة سلوكيات منحطة لا تمت للمهنة بصلة.
فحين يفقد الإعلام احترام الناس، تتسع المسافة بينه وبين وظيفته الأصلية كوسيط مسؤول ينقل الحقيقة ويساهم في النقاش العمومي بتجرد وموضوعية.
ومن هنا يمكن القول أن أخلاقيات المهنة ليست ترفا ولا دفتر مواعظ ، بل هي جوهر العمل الصحفي، و هي ما يمنح للمهنة معناها وقيمتها، بل دونها لن تقوم قائمة للسلطة الرابعة.
وهنا ينبغي التأكيد على أن الأخلاقيات لا تفرض بقوة القانون فقط، بل تكتسب أثناء التكوين، وتمارس داخل غرف التحرير، وتصان بالتضامن المهني، وترسخ بالتقاليد الجيدة، لخلق ضمير مهني يرفض أن يتم اختزال حرية الصحافة في مجرد الحق في النشر، في وقت تغيب فيه روح المسؤولية التي تميز الصحافي المهني عن ناشر المحتوى العشوائي.
فالصحافي الحقيقي لا يختبئ خلف "حماية المصدر" لنشر أخبار زائفة، ولا يبرر التهويل بالبحث عن التفاعل، ولا يقتحم خصوصيات الناس لأسباب تجارية، لأنه يعرف أن لكل خبر عواقب، ولكل صورة سياق، ولكل كلمة وزن.
واليوم، نحن بحاجة إلى وقفة جماعية، لا تستحضر فقط الدفاع عن حرية التعبير، بل أيضا واجب احترام قواعد المهنة، وتفعيل مواثيق السلوك داخل المؤسسات، وتحسين التكوين المستمر، وخلق آليات مهنية لمحاسبة من يسيئون للصحافة باسم الصحافة.
لأن الرهان لم يعد فقط على ما ينشر، بل على كيف ينشر ولماذا، والنظر إلى أن الصحافة على أنها ليست مجرد مهنة، بل التزام أخلاقي تجاه المجتمع، ولا يمكن أن تنهض بدورها من دون استعادة المعنى النبيل للصحافة: سلطة نقدية، ضمير حي، وصوت يحسن الإنصات قبل أن يجيد الكلام.