عبق التراث!
أعادتني حلقة عن «الختانة الفيلالية» من برنامج «عبق التراث» بثتها القناة الأولى الخميس الماضي، إلى تافيلالت وقصر السوق وأرفود والرشيدية والريصاني وأخنوس وولاد يوسف، وكل تلك البقاع البسيطة، الطاهرة، الطيبة.
في سمرة من عبروا البرنامج وجوه وملامح أعزاء، منهم من رحل رحم الله الجميع، ومنهم من أطال الله له العمر، وبقي «صباغة أصلية» تستعصي على التلف والصدأ والتغير، إذ لم يبدل تبديلا، وبقي ذلك الصفاء التقي القادر على الترحاب الكريم بالناس، بعيدهم وقريبهم، وإن كان الحال ضيقا، لأن القلب مصاب بمرض الحب وداء الرحابة والاتساع المزمنين، ويستطيع احتضان الجميع، ولا يكتفي.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
سمعت «آمول الزين، آمول الزين، واللي ما بغا صحراوة يلعن والديه»، عيطتنا الفيلالية الأصيلة التي حفظناها ونحن صغار، وتذكرت من كانوا يترنمون بها ويرقصون عليها انتشاء، وآخرهم خال عزيز وضعناه تحت التراب، فالتقت في الأحاسيس رغبة الرقص البريء بذكرى من عبروا باللحن والكلمات التي تخاطب فيك المنبت الأول والمحتد الأصل، والمكان الذي تفخر بأن تقول إنك منه لأنه لا يشبه أي مكان آخر.
سألت نفسي، لو أكثر علينا تلفزيوننا من هذا البهاء المخاطب لكل الحواس الصادقة، ولو انفتح على كل المغرب من أقصاه إلى أقصاه، ومن أصغر دوار فيه إلى أبعد مدشر أو قصر كم من حاسة حب قديم، سيخاطب؟ وكم قلبا تذكر الذي كان، سيعيد إليه؟ وكم صغارا سيرون في أعين من ولدوهم التماعة الاشتياق للمكان والفخر بالنسبة والانتساب إليه، وسيقولون «نريد أن نزور نحن أيضا تلك الديار التي تصنع فيك ذكراها ولحن هارب منها هذا العجب العجاب الذي نراه الآن؟».
هذا دور ثابت على تلفزيوننا، عليه القيام له والإكثار منه، فالمغرب أجمل وأكبر وأعظم وأشمل وأجل من أن يكون مدينة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا.
شكرا للأولى، وشكرا لمن يقفون وراء الحفاظ على هذا التراث وعبقه.
يونس... والآخرون!
أثار مقال للزميل يونس مجاهد، نشره أولا لدى زملائنا في الغراء «الصباح»، نقاشا كبيرا و«نقاشا» آخر أصغر وسط قبيلة الصحافيين، وامتد لظاه لكي ينخرط فيه حتى من لا علاقة لهم بالصحافة.
البعض نوه برصانة يونس وبرباطة جأش قلمه، وهو يتطرق لموضوع تفضل الأغلبية الخائفة عدم التطرق إليه خشية (الهزات الارتدادية) التي تأتيها من الحسابات الافتراضية، حقيقيها والمزور. وبعض ثان تخندق كما لو أنه في معركة، وحمل شعار «معنا أو ضدنا» الذي أنهك ما تبقى من صحافة ومن تبقوا من صحافيين في هذا البلد، وفرض عليهم دمارا كثيرا، حد إفراغ مهنتهم، أو الجزء المتبقي منها، من كل دور ومن كل فائدة، ومن كل معنى.
هذا الاصطفاف من الجانبين لا يهمنا هنا، فهو فعلا تافه، ومن يرعونه ويتعيشون منه أتفه، بل سنتوقف فقط عند قدرة مقال مكتوب على التأثير، وهذه نادرة إلى درجة ضرورة التوقف عندها لأن المتلقي الجديد أصبح كسولا يكتفي بالحكي المصور، ولم يعد قادرا على قراءة سطرين، بل جملتين، بل حرفين، بل قل إنه عندما يرى أي شيء مكتوب أمامه اليوم ينهار ويبكي ويصيح بكل ما في صوته من قوة مطالبا بتصويره وإلقائه عليه مسموعا، لأنه «ما قاد على ثقل».
هذا هو أهم ما في الموضوع: يمكن لمقال أن يقف في وجه عشرات المقاطع المصورة، ومئات التدوينات المرتكبة على عجل ودون تفكير في عمقها. بل يمكن لمقال إذا مس كبد الحقيقة، مثل مقال يونس الأخير، أن يثير بعد كتابته ضجيجا كثيرا، فيه الصالح وفيه الطالح، وهذا أمر علينا الانتباه إليه، لأنه يدل على أن المعركة لم تحسم نهائيا لصالح غير القادرين على الكتابة من المكتفين بالحكي المرسل على عواهنه في الأنترنيت.
بقية البقية لا تهمنا نحن هنا، إذ نكتفي بالفرجة والتأمل، وانتظار ما ستسفر عنه كل المناوشات بين المهنة والمهنة، وبين الفضوليين أيضا من المحسوبين على المهنة، وعادة هؤلاء هم من يتحدث أكثر عن... المهنة.
لذلك قل مثلنا سبحان الله، ولا تخرج، بل إبق معنا في صف المتفرجين إلى أن يقضي الله الأمر الذي نعرف جميعا أنه كان مفعولا.
(ترمضينة وصافي)!
رمضان ليس شهر السردين بخمسة دراهم فقط، ولا هو شهر «البطبوط» بسنتيمات معدودة، ولا هو أيضا شهر لازدراد اللحم بخمسين درهما للكيلوغرام فقط، لا غير.
شهر العبادات هذا شهر خاص فيه تربية أخرى للنفس على مخالفة أهوائها، بكل الأشكال. ومن أدخلوا إلى أذهان ضعفائنا فكرة أن هذا الشهر الفضيل هو مجرد طاولة أكل في المغرب والفجر، فطورا وسحورا، وبضعة طقوس والسلام، أساؤوا للدين ويسيئون، ويفرغون شهرا هو أعظم الشهور من كل معانيه.
للأسف، نعيش معهم، وبينهم، وفي أحايين معينة تجد نفسك داخل صف مزدحم تقاتل بكل شراسة لاقتناء أكل قد لا تمس منه لقمة واحدة بعد الإفطار.
شافانا الله وعافانا من هذه الآفة التي يسميها قومنا «اللهطة»، ويستعيذون بالله منها، ويمضون.