الدراما التلفزيونية الرمضانية.. بين غياب النقد وتجاهل الهوية التاريخية ورهانات الإنتاج

الدكتور محمد العلمي* الاثنين 10 مارس 2025

تتحول القنوات التلفزيونية المغربية في شهر رمضان، إلى منصات لعرض الإنتاجات الدرامية والكوميدية، في موسم يشهد تنافسًا حادًا بين الشركات المنفذة للإنتاج لجذب انتباه المشاهدين، وتهافتًا من قبل العلامات التجارية لحجز المساحات الإعلانية داخل هذه الأعمال، نظرًا لنسب المشاهدة المرتفعة التي تسجلها. ورغم هذا الإقبال الجماهيري، إلا أن الجدل يرافق هذه الإنتاجات كل عام، إذ تنقسم الآراء بين من يعتبرها مؤشرًا على تطور الصناعة الفنية المغربية، وبين من يرى أنها لا تزال دون مستوى التطلعات. وتتكرر الأسئلة نفسها في كل موسم: لماذا تظل الانتقادات حاضرة رغم نسب المشاهدة العالية؟ وأين هو دور النقد الفني في تقويم وتوجيه هذه الأعمال نحو الأفضل؟ ولماذا تغيب الدراما التاريخية رغم غنى المغرب بإرث حضاري وثقافي قادر على تقديم إنتاجات تليق بمكانته؟ وما هي رهانات شركات الإنتاج في التوفيق بين متطلبات السوق وجودة المحتوى، مع استقطاب مواهب جديدة تمنح المشهد الدرامي نفسًا متجددًا؟

هذه الإشكالات تفرض نفسها بقوة في سياق يتطلب إعادة النظر في أسس الإنتاج الدرامي المغربي، ودراسة العوامل التي تعيق تطوره، سواء من حيث جودة المحتوى، أو من حيث التفاعل مع الجمهور والنقد، أو حتى استغلال الإمكانات الثقافية والتاريخية التي تزخر بها البلاد في صناعة دراما تعكس الهوية المغربية في أبهى صورها.

بين نسب المشاهدة المرتفعة والانتقادات الجماهيرية: مفارقة متكررة

تشهد الأعمال التلفزيونية الرمضانية نسب مشاهدة مرتفعة، سواء عبر القنوات التلفزيونية أو المنصات الرقمية، حيث تتحول بعض المسلسلات والبرامج الكوميدية إلى حديث الساعة. ومع ذلك، فإن موجة الانتقادات اللاذعة التي تواكب هذه الإنتاجات تطرح تساؤلًا جوهريًا: كيف يمكن لعمل أن يكون مرفوضًا جماهيريًا في الظاهر، لكنه يحقق ملايين المشاهدات؟

الجواب عن هذا السؤال يكمن في طبيعة استهلاك المحتوى التلفزيوني خلال شهر رمضان. ففي ظل غياب بدائل قوية، ومع العادة الاجتماعية التي تجعل العائلات تجتمع حول الشاشة وقت الإفطار، يجد المشاهد نفسه متابعًا للإنتاجات الدرامية، حتى وإن لم تكن بمستوى تطلعاته. هذا الواقع يجعل شركات الإنتاج تعتمد أكثر على ضمان نسب مشاهدة مرتفعة بدل التركيز على جودة المحتوى، مما يرسخ حلقة مفرغة تعيد إنتاج نفس الإشكالات كل عام.

أزمة النقد الفني في المغرب: غياب التأطير وضعف التأثير

تلعب الصحافة والنقد الفني دورًا محوريًا في توجيه الصناعة الدرامية نحو مستويات أكثر احترافية، حيث يساهم النقد في تقييم الإنتاجات، وتسليط الضوء على مكامن القوة والضعف فيها، ودفع شركات الإنتاج إلى تحسين جودة أعمالها. إلا أن هذا الدور يبدو شبه غائب في المشهد المغربي، حيث يقتصر النقد الفني على تدوينات متفرقة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بعض المقالات الانطباعية التي لا ترقى إلى مستوى التحليل العميق.

النقد الفني ليس مجرد رأي شخصي، بل هو ممارسة مبنية على أدوات تحليلية تدرس السيناريو، والإخراج، والأداء التمثيلي، والبنية الدرامية، مما يساعد في خلق ثقافة نقدية حقيقية داخل الصناعة. وفي تجارب دولية، (نموذج مصر) نجد أن للنقد الفني تأثيرًا مباشرًا على نجاح أو فشل الأعمال، حيث يمكن لمقال نقدي قوي أن يعيد تشكيل مسار عمل درامي، كما يمكن للجمهور الواعي فنيًا أن يفرض معايير أكثر صرامة على الإنتاجات.

أما في المغرب، فإن غياب هذا التأطير النقدي يجعل الإنتاجات الدرامية تسير وفق منطق السوق والإعلانات، بدلًا من أن تكون رهينة لمعايير الجودة والتميز الفني.

الدراما التاريخية: غياب غير مبرر رغم غنى التراث المغربي

رغم الإرث الحضاري الغني الذي يتمتع به المغرب، من عصور الأدارسة والمرابطين والموحدين، إلى مرحلة الأندلس، ثم عصر النهضة الثقافية في فاس والقرويين، فإن الإنتاجات التلفزيونية نادرًا ما تتناول هذا المخزون الهائل في أعمال درامية تاريخية.

الدراما التاريخية ليست مجرد استعادة لأحداث الماضي، بل هي وسيلة لتكريس الهوية الوطنية وتعريف الأجيال الصاعدة بتاريخ بلادها بأسلوب فني جذاب. ومن خلال استثمار هذا الإرث، يمكن للمغرب أن يعزز مكانته في السوق الدرامية العربية والدولية، تمامًا كما نجحت دول أخرى في تسويق تاريخها عبر إنتاجات ضخمة.

المثير في الأمر أن المغرب يمتلك مقومات إنتاج دراما تاريخية ذات مستوى عالمي، فمدنه العريقة مثل فاس ومراكش ومكناس والصويرة تعد استوديوهات حية، بمبانيها التاريخية وأزقتها التي لا تزال تحافظ على طابعها القديم. ومع ذلك، يظل الاستثمار في هذا المجال ضعيفًا، حيث تفضل القنوات وشركات الإنتاج التركيز على المسلسلات الاجتماعية والكوميدية، متجاهلة البعد الثقافي والتاريخي الذي يمكن أن يثري المحتوى الدرامي الوطني.

شركات الإنتاج ورهانات التجديد: بين استقطاب المواهب والحفاظ على الرواد

رغم التحديات التي تواجه الدراما المغربية، إلا أن بعض شركات الإنتاج بدأت في السنوات الأخيرة في الانفتاح على المواهب الجديدة، سواء في مجال الكتابة أو الإخراج أو التمثيل. فقد أصبحنا نرى وجوهًا جديدة في المشهد الدرامي، سواء من خريجي المعاهد المسرحية، أو المواهب الصاعدة من السينما المستقلة، وهو توجه إيجابي يعكس رغبة في تجديد الدماء داخل الصناعة.

إلى جانب ذلك، لا تزال هذه الشركات تحافظ على دور الفنانين الرواد، الذين يمثلون جزءًا من الذاكرة الدرامية المغربية. إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بين الأجيال، بحيث يتم منح الشباب فرصًا حقيقية للتعبير عن رؤاهم الفنية، دون إقصاء الأسماء التي أسست للمشهد الدرامي الوطني.

لكن رغم هذه الإيجابيات، لا تزال بعض شركات الإنتاج تعتمد على استراتيجيات تجارية تجعلها تكرر نفس الأسماء، وتنتج أعمالًا تركز على الكم بدل الجودة. وهذا الأمر مرتبط بشكل وثيق بغياب النقد الفني، حيث لا توجد مساءلة حقيقية حول المستوى الفني للأعمال، مما يجعل السوق الدرامية خاضعة لحسابات الإعلانات والمعلنين أكثر من خضوعها لمتطلبات الجودة الفنية.

نحو صناعة درامية أكثر احترافية

إذا أرادت الدراما المغربية أن تحقق قفزة نوعية، فإنها بحاجة إلى إعادة النظر في عدة جوانب أساسية، أبرزها:

       1.    إحياء دور النقد الفني: يجب تشجيع الصحافة الفنية على تقديم تحليلات معمقة، وتنظيم ندوات نقدية متخصصة لمناقشة الإنتاجات الدرامية، مما يساعد في خلق وعي نقدي حقيقي داخل الصناعة.

       2.    الاستثمار في الدراما التاريخية: عبر دعم المشاريع التي تروي تاريخ المغرب بأسلوب احترافي، والاستفادة من المؤرخين وكتاب السيناريو المتخصصين لإنتاج أعمال ذات قيمة ثقافية.

       3.    تشجيع المواهب الشابة: عبر منح فرص حقيقية للكتاب والمخرجين الجدد، وتجاوز فكرة الاعتماد على نفس الأسماء بشكل متكرر.

       4.    تعزيز الجودة الإنتاجية: من خلال توجيه الاستثمارات نحو إنتاجات ذات مستوى فني عالٍ، بدلًا من التركيز فقط على الأعمال التجارية التي تستهدف نسب المشاهدة دون مراعاة القيمة الفنية.

المشهد الدرامي المغربي في مرحلة تطور، لكنه يحتاج إلى رؤية واضحة وإرادة حقيقية للنهوض بمستواه. فبدلًا من إنتاج أعمال تُستهلك بسرعة وتُنسى بسرعة، يجب التفكير في بناء صناعة درامية متكاملة، تضع الجودة في صلب اهتماماتها، وتستثمر في تاريخ وثقافة هذا البلد العريق، بما يعزز مكانة الدراما المغربية على المستوى العربي والدولي.

 * فنان وباحث في الثقافة والإعلام والتواصل