«ياك آجرحنا»!

بقلم: المختار الغزيوي الاثنين 10 مارس 2025
hq720
hq720

لي مع «النعيمة» التقاءات عديدة، منذ اكتشفت المسامع مني أنها تستطيع التقاط اللحن والكلم والأداء الموصل لهما معا بكل إتقان. 

لي معها في السن الأولى للحياة، تلك الجملة/ الامتحان التي كانت تقال لنا ونحن في الإسماعيلية: «واش كتبغي عزيزة جلال ولا نعيمة سميح؟».

منطق المكان ونبوغه وعبقريته، كل ذلك كان يفرض الإجابة البديهية الأولى: عزيزة ابنة ثانوية للا آمنة، وابنة مدينتنا الإسماعيلية، والصوت الذي يقال لنا في كل الأنحاء إنه سيكون خليفة أم كلثوم بكل سهولة ويسر في العالم العربي كله.

لكن منطق تمغربيت كان يغلب في دواخلي منطق تمكناسيت. 

كانت «النعيمة» ولازالت تغني المغربي. وتلك نقطة ضعف أساسية ونقطة قوة لا تنتهي. عندما تصيخ السمع للكلام المكتوب بلغتك الأم يكون له الطعم الآخر، طعم البقاء، طعم مخاطبتك وإن حاولت التجاهل، طعم القدرة على النفاذ حتى أعماق آخر مسامك والبقاء هناك رهينة هذا الانتماء...

لي مع «النعيمة» منذ أصبحت مدمنا على «ياك آجرحي»، أبدأ بها اليوم صباحا قبل «كيفك إنت» لفيروز، ثم بقية المقطوعات المساعدة على الحياة، قصة انبهار كبرى بما ظللت أسميه دوما وأبدا النشيد الوطني للعاشق المغربي. 

هاته الكلمات رهيبة في جمالها. هذا اللحن مرعب في إبداعه. وهذا الصوت الأخاذ المؤدي للمشترك بين الكلمة وبين اللحن صوت صعب على الوصف. 

سيدته تستحق أن تكون سيدتنا جميعا. وعندما تمسك بتلابيبك تلك الأغنية أستطيع أن أراهن عليها بكل ما لا أملكه في هاته الدنيا وبكل ما أملكه أيضا - وهو قليل - أنك لن تستطع الفرار.

تصبح أسيرا في هذا المكان الباذخ المكتوب كلمات لا قبل لأحد بكتابتها، ولحنا لا قبل أحد بإبداع مثيل له، وأداء بقي لوحده بحة قادمة من السماء هدية لكل المغاربة تقول لهم لديكم «النعيمة» فما الذي تريدونه بعد ذلك؟ 

ضبطت نفسي على امتداد لحظات العمر المتفرقة أبكي مع هاته الأغنية. وضبطت نفسي أترنم معها مستمتعا حد الثمالة والانتشاء. وضبطت نفسي أبتسم وأنا أنصت لتفاصيل الإبداع الحق والحقيقي فيها مرات ومرات. 

كان الاستماع لـ«ياك آجرحي» بالتحديد كل مرة مرانا من نوع خاص، يلزمك لأجل إتقانه ألا تنصت فقط. يلزمك من أجل الدخول إلى محرابه أن تكون متقبلا لفكرة الاستمتاع.

بعد ذلك وقبل ذلك للنعيمة أغان ومقطوعات أخرى كثيرة، هي الأخرى تهزك وتحملك إلى حيث تستطيع هاته الرائدة لوحدها فعل ذلك، من الهلال الذي تقول إنه غاب، حتى ذلك الخاتم الشهير الذي رآه المغاربة كلهم في يدها وفي صوتها فأعجبهم وأعجبوه، لكنني، ومثل أي متطرف في العشق لا يتقن البقاء على رف التناول المعتدل للأشياء، أقف عند ناصية «ياك آجرحي»، وأكتفي.

أعتبرها واحدة من المقطوعات الخالدة التي أنتجها الإنسان. أتخيل أنها لو أبدعت في مكان آخر غير المكان لقيل إنها كنز للإنسانية عليها جميعا أن تحفظه وأن تردده وأن تنتشي به الوقت كله. 

هي «لابوهيم» يوم تركها لنا أزنافور باقية وتتمدد، وهي «نو مو كيت با» يوم صرخ بها جاك بريل وهو يتلوى ألما، وهي «لوف مي تيندر» يوم أكد إلفيس بريسلي أنه يتقن الغناء أيضا إلى جانب حركة القدمين، وهي «ماي واي» يوم قرر سيناترا أن يترك لنا ما نملأ به فراغ رحيله عن المكان. وهي «نو وومان نو كراي» يوم ترجل بوب مارلي عن صهوة الحياة وقرر أن يدع للإنسانية التي ستأتي بعده دليل مرور من المكان. وهي «الأطلال» وهي «من غير ليه» وهي «أهواك»، وهي سمفونيات الألمان والروس يوم اجتمعوا لكي يسلموا القياد للموسيقى لكي تعرف بهم من كان ذا سمع أو أرخى الأذن الموسيقية وهو شهيد. 

لي مع «النعيمة» حكايات وحكايات. تماما مثل المغربيات وكل المغاربة. نراها، نحبها، نستمع إليها تغني تأخذنا إلى حيث لا ندري. نبكي، نتألم، نترنم، نستمع، نستمتع، وأساسا نفتخر أننا من نفس المكان الذي أنجب وقدم للعالم كله هاته الجوهرة النادرة المسماة «النعيمة».

لها الخلود، رغم الموت، ولإبداعاتها القدرة على البقاء حتى آخر الأيام دليلا إضافيا آخر على عبقرية المكان ولغة ومشاعر وأحاسيس وأداء أهل المكان...

فقط لا غير.

الله يرحمك سيدتي. 

الله يرحم الناس.