حساء الثقافة !

المختار لغزيوي الأربعاء 08 مايو 2024
IMG_5187
IMG_5187

حساء الثقافة ! 

لم يكن معقدا. كان مثقفا. وكان يهوى تقاسم ثقافته مع الآخرين، وتحبيب لغته إلى الآخرين. لذلك كان ماكان عليه، ولذلك صنع إسما سيظل خالدا في علاقة التلفزيون بالثقافة: بيرنار بيفو. 

غادر الكاتب ومقدم البرامج التلفزيونية الفرنسي عالمنا أول أمس الإثنين، عن سن يناهز التاسعة والثمانين، بعد حياة ثقافية مرحة وجميلة، أمضاها مدافعا عن لغة كان يعتبرها الأجمل والأكمل، هي اللغة الفرنسية (هذا رأيه على كل حال ورأي عدد كبير من محبي هذه اللغة الأنيقة)، وبعد مرور باذخ من الحياة سمته الأولى والأخيرة: البحث عن الحرف اللائق في المكان اللائق. 

الذين كانوا يشاهدون "تلفزيون أيام زمان"، وليس ارتكابات الوقت الحالي، يتذكرون برامج مثل "أبوسطروف"، أو "حساء الثقافة" (bouillon de culture)، أو امتحانات الإملاء الجماعية، أو أسئلة بروست، الفقرة التي كان ينهي بها بيفو برنامجه، ولايكتفون بالتذكر فقط. 

لا، يملؤهم فخر صغير وجميل أنهم شاهدوا تلك البرامج، وأنهم تعلموا فيها ومن خلالها شيئا: إسما لكتاب ذهبوا ليبحثوا عنه بعناء شديد في المكتبات، أو كاتبا قادما من بلد بعيد لم يكن لهم ليعرفونه لولا بيرنار بيفو، أو أغنية أو مسرحية أو عملا فنيا استضاف أصحابه، وقدمهم بتلك الطريقة المحببة العاشقة لهم التي تجعل مشاهده هو الآخر من محبيهم.

لماذا بدأنا الملحوظة عن هذا الكبير الذي رحل بعبارة : لم يكن معقدا، كان مثقفا؟ 

لأن مصاب البرامج الثقافية الأخرى، عندنا أو عند الآخرين اليوم هو ارتباطها بأنانيات كبيرة وضخمة تعتقد أنها تعيد تشكيل العالم وهي تقدم فقرة تلفزيونية عابرة. 

بيفو، كان العكس تماما، كان يصغر أمام المادة الثقافية التي كان يعتبرها أعظم ماأنتجه الإنسان. لذلك نجح هو فيما فشل فيه الآخرون، كل الآخرين: جعل المادة الثقافية، وهي مادة ليست في متناول الجميع، مادة جماهيرية يشاهدها الجل، لأن من يقدمها يتقن الحديث إلى هذا الجل. 

هذا هو الفرق الأساس بين برامج بيرنار بيفو الثقافية التي كان يلتف حولها الملايين من المشاهدين، في فرنسا وخارجها، وبين بقية البرامج الثقافية التي لايشاهدها الضيوف الحاضرون فيها أصلا. 

في سنوات أخرى، تبدو لنا الآن سحيقة وبعيدة جدا، كنا نحرص هنا في "الأحداث المغربية"، على تفريغ حلقات بيرنار بيفو باللغة العربية، وتقديمها للقراء في ركن يحمل إسم "زابينغ" (التجول بين القنوات)، وأحيانا كنا نسأل أنفسنا إن كان هناك قراء في المغرب سيهمهم الاطلاع على منتوج مثل هذا؟ 

كان الجواب يأتينا عبر رسالة بريدية، زمن الرسائل الجميل، من قارئ في ولاد تايمة، أو من قارئة في عمق الجنوب، أو نائي الشرق، أو بعيد الشمال، تشكرنا على الورقة التي نشرناها، وتقول "لقد احتفظت بالنسخة من ذلك العدد لغاية مفيدة". 

مضى ذاك الزمن. مضى حقا. 

اليوم، الناس في مشاهداتها أصبحت تنفر من أناقة أناس مثل بيرنار بيفو. 

واليوم، الذوق العام أصبح قبيحا يحب القبيحين، ويميل إلى الرداءة، ويفر فرارا من الجمال. 

هل هو أمر سيء، أو غير عادي؟ 

لا أتصور، فالكتب التي حببنا بيفو في قراءتها تتحدث دوما عن تغير الأزمان، وتبدل الأوقات، وتعتبر عملية الصعود والنزول، في كل شيء، أمرا إنسانيا طبيعيا، عبر عنه شاعر عربي كبير ذات يوم وهو يرثي مافات، ولعله أبو البقاء الرندي: 

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان. 

رحم الله بيرنار بيفو، فقد كان رجلا جميلا بالفعل.