منتخبونً أمام القضاء: أولوية إصلاح القوانين الانتخابية وقانون الأحزاب

رحاب حنان السبت 10 فبراير 2024
No Image

رحاب حنان

كشفت المتابعات الجارية أمام المحاكم في حق منتخبين عن أزمة العمل السياسي ببلادنا، في شقيها التمثيلي والحزبي، وهي أزمة لا تطول المؤسسة البرلمانية فقط، بل كل المؤسسات التمثيلية، وخصوصا الترابية منها.
فأغلب المتابعات المسجلة في حق البرلمانيين، والمرتبطة بصفتهم التمثيلية، وليس المواطناتية، متعلقة بأدوارهم وممارساتهم داخل الجماعات والمجالس التي يترأسونها أو يشاركون في مكاتبها من موقع التدبير، وليس بصفتهم البرلمانية، ونعني بها ما يتعلق بهدر المال العام، أو بتلقي رشاو، أو باستغلال المنصب، أو بأوجه صرف الميزانيات، مما يدل على أن أزمة النخب في المؤسسات التمثيلية هي أزمة عامة، وليست مقتصرة على غرفتي البرلمان حصرا.
ذلك أن عناوين المواقع الإخبارية ومانشيتات الصحف غالبا ما تركز على الصفة البرلمانية للعضو محل المتابعة، حتى لو تعلق الأمر بشبهة ارتكاب جرائم لها علاقة بصفته رئيس جماعة أو عضو مكتبها له تفويض بتدبير قطاع ما.
إن التذكير نعتبره مهما، لبيان مسؤولية الجميع في تيسير سبل تسلل الفاسدين إلى المؤسسات التمثيلية، وفي مقدمتهم الأحزاب السياسية التي بات همها الأساس البحث عن كائنات انتخابية تستطيع تأمين الحصول على أكبر عدد من المقاعد، بغض النظر عن الأضرار التي يمكن أن تتسبب فيها لاحقا، سواء على مستوى تمييع العمل السياسي، أو على مستوى تكريس بنيات الفساد والريع والمحسوبية، وجعلها بمثابة الثابت والمرجع.

نخب ضعيفة
ولعل هذا من العوائق الكبرى لتطور مشروع الدمقرطة ببلادنا، ذلك أن المدونة الدستورية والأطر القانونية الحالية تكون فعاليتهما محدودة في الارتقاء بالحياة السياسية، ومن ثم توسيع فضاءات الديمومقراطية لتنتقل من المؤسسات نحو البنيات المجتمعية الأخرى.
وهذه المحدودية مرتبطة نسقيا بضعف النخب، سواء ارتبط هذا الضعف بالكفاءة أو بالإرادة، فلا ديموقراطية فاعلة في محيطها الثقافي والمجتمعي، بدون مؤسسات تمثيلية قوية، ولا يمكن بناء هذه المؤسسات بنخب ضعيفة معرفيا وثقافيا، وغير كفؤة تدبيريا، وأكثر من ذلك فهي ترى في الديموقراطية والشفافية والمحاسبة والرقابة نقيضا لمصالحها.
إن الضرر في هذه الحالة لا يكون أثره سلبيا على هذه المؤسسات فقط، وهو الأثر الذي نعاينه في اضطرار مؤسسات أخرى سيادية غير منتخبة للتدخل أكثر من مرة لتأمين احتياجات الناس الإدارية والتمويلية وحتى التعليمية والصحية والتشغيلية، مما هو مناط قانونيا ودستوريا بالمؤسسات المنتخبة، بل إن الضرر يلحق حتى بالبنيات المجتمعية الأخرى التي هي خارج المؤسسات، والتي تشتغل وفق أعراف وأنساق تنمو ذاتيا بالموازاة مع ما هو هيكلي ومؤسساتي وخاضع لمساطر قانونية، ذلك أن المؤسسات المنتخبة يفترض أن تلعب كذلك أدوارا بيداغوجية، وأن تكون رائدة في تجسيد وإشاعة قيم الصدق وإيثار المصلحة العامة والشفافية والمنافسة الشريفة والاحتكام إلى القانون.

إن المتابعات الأخيرة لمجموعة من المنتخبين يجب أن تفتح أعيننا على هذا الخطر الذي يتهدد انتقالنا الديموقراطي السلس والحكيم، والذي يعد مرجعا إقليميا، كما أنه واحد من عناصر نجاحات المغرب خارجيا، خصوصا لجهة نمذجته من طرف مؤسسات دولية كبرى كواحد من إمكانات التحول الديموقراطي في المنطقتين الإفريقية والشرق أوسطية.
ذلك أن المتابعات للمفارقة سجلت النسبة الكبرى منها في صفوف الأحزاب التي تقود التحالف الحكومي، كما تقود أغلب الجماعات الترابية، وخصوصا مجالس الجهات والمدن الكبرى بالمملكة، مما يبين بجلاء مسارب التزكيات الانتخابية، وطبيعة البروفايلات التي تقدمها الأحزاب في سعيها للنجاح انتخابيا.
وإن متابعة التسريبات المتعلقة سواء بالنقاش الدائر في مكتبي مجلسي النواب والمستشارين بخصوص القانون الداخلي، أو بخصوص مدونة السلوك والأخلاقيات، في علاقة سواء بالتوجيه الملكي المتضمن في الرسالة التي وجهها جلالة الملك بمناسبة مرور 60 سنة على تأسيس البرلمان المغربي، إو في علاقة بسياق المتابعات الأخيرة التي استأثرت باهتمام الرأي العام، تظهر أن هناك ضعفا وارتباكا في التلقي، وفي الاستجابة معا.

قراءة في سياق واضح
ذلك أن قراءة الرسالة الملكية الأخيرة بربطها بسياق المتابعات الأخيرة، ستقود في رأينا على قراءة متعسفة وخاطئة، لأنها مبنية على تأويل خاطئ، يجعل الدعوة الملكية إلى مدونة للسلوك والأخلاقيات لها علاقة بالمتابعات الأخيرة، سواء التي لا زالت جارية أمام المحاكم، أو التي صدرت فيها أحكام نهائية.
والعطب في هذه القراءة، أنها لا تستحضر الأدوار الاستراتيجية للمؤسسة الملكية، مما يجعلها فوق اللحظي والعابر، وخصوصا إذا كان هذا اللحظي يفترض أن له أجوبة مؤسساتية وقانونية لا تستدعي تدخلا ملكيا مباشرا، إلا إذا توقفت مفاعيلها لسبب من الأسباب، فالمتابعات الأخيرة هي متابعات قضائية، والجواب عنها يجب أن يكون قانونيا عبر ضمانات المحاكمة العادلة.
أما الرسالة الملكية فيجب أن نضعها في سياق المشروع الملكي لتقوية مؤسسات الدولة، سواء السيادية أو المنتخبة، حتى يمكنها أن تشتغل في توازن وتكامل، ولذلك فإن الدعوة الملكية لمدونة سلوك وأخلاقيات ليست جديدة، فقد تضمنها خطاب ملكي بمناسبة افتتاح البرلمان سنة 2012، والتي جاء فيها :" وفي هذا الصدد، ندعو البرلمان إلى الانكباب على بلورة مدونة أخلاقية ذات بعد قانوني، تقوم على ترسيخ قيم الوطنية وإيثار الصالح العام، والمسؤولية والنزاهة، والالتزام بالمشاركة الكاملة والفعلية، في جميع أشغال البرلمان، واحترام الوضع القانوني للمعارضة البرلمانية ولحقوقها الدستورية .على أن يكون هدفكم الأسمى جعل البرلمان فضاء للحوار البناء، ومدرسة للنخب السياسية بامتياز. فضاء أكثر مصداقية وجاذبية٬ من شأنه أن يحقق المصالحة مع كل من أصيب بخيبة الأمل في العمل السياسي وجدواه في تدبير الشأن العام."
إن هذا التذكير بهذا المقتطف من الخطاب الملكي الذي مرت عليه 12 سنة، هو من جهة لبيان النظرة الاستشرافية للمؤسسة الملكية ، ومن جهة أخرى للتذكير أنها ليست المرة الأولى التي يتدخل الملك لتنبيه المؤسسات التمثيلية والأحزاب السياسية معا لمسؤولياتهم في تحصين التحول الديموقراطي، وفي الاستجابة لاحتياجات المواطنات والمواطنين، وفي الدفاع عن مصالح الوطن.

أدوار مهدورة
وحين نقول إن استجابة مكتب مجلس النواب لما يقع حاليا من متابعات لأعضائه بسبب شبهة ارتكاب جرائم لا علاقة لها بصفتهم البرلمانية، تظل قاصرة في نظرنا، كما أنها توظف التوجيه الملكي في غير مساقه المرتبط بسؤال تقوية مؤسسة البرلمان باعتبار أدوارها المركزية في تقوية الديموقراطية حتى لا تكون عامل إعاقة للأدوار الطليعية للمؤسسة الملكية، فإنما مرد ذلك أنها تتوسل بإجراءات لا تمثل الاستجابة الفضلى لما هو منتظر منها، هذا إذا لم نقل إنها استجابة فيها عناصر غير قانونية.
لقد تحدث الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح البرلمان في 2012 عن مدونة أخلاقية قانونية، وأضاف في الرسالة الملكية الأخيرة بمناسبة الاحتفاء بمرور 60 سنة على تأسيس البرلمان عبارة " ملزمة"، أي مدونة أخلاقيات قانونية وملزمة، ونعتقد أن إضافة كلمة " ملزمة" هي من جهة تذكير بالتأخر الحاصل في صياغتها وتنزيلها، وكذلك للتوكيد على الطابع القانوني للمدونة إياها.
وهذا يعني في اعتقادنا أن هذه المدونة لا ينبغي أن تكون عنصرا من عناصر القانون الداخلي لمجلسي النواب والبرلماني، وهو القانوني الذي يمكن تغييره في أي وقت باتفاق الفرق البرلمانية، ولا تتعدى حدوده ضبط العلاقات الداخلية، ولا أثر خارجيا له، بل إننا نعتقد أن التنصيص الملكي على أن تكون مدونة الأخلاقيات قانونية وملزمة، يقتضي إجراءات قاونية تتجاوز القانون الداخلي، أي أن تكون قانونا ملزما، ويصدر في الجريدة الرسمية بعد أن تتم مناقشته والمصادقة عليه في جلسة عامة.

مدونة الأخلاقيات .. أية فعالية ؟
ويحيلنا هذا إلى قضية أخرى، وهي: هل يمكن لمدونة أخلاقيات قانونية وملزمة أن يكون لها مفعول إجرائي ذو ديمومة واستدامة وفعالية، في ظل مجاورتها لقوانين أخرى مرتبطة بها، أثبت واقع المؤسسات المنتخبة أنها محدودة، من مثل القوانين المرتبطة بالعمليات الانتخابية، وقانون الأحزاب، باعتبارها مداخل لتشكيل المؤسسات التي يفترض بمدونة الأخلاقيات أن ترسم المرغوب واللامرغوب، المشروع واللامشروع في مخرجاتها.
إن الورطة التي وجد مجلس النواب نفسه فيه، وللدقة أكثر وجدت الأغلبية الحكومية نفسها فيها أكثر من باقي مكونات البرلمان، متمثلة في المتابعات الجارية لكثير من أعضائه، لا تعود إلى غياب مدونة للاخلاقيات، بل تعود إلى الطريقة التي وصل بها هؤلاء المتابعون إلى البرلمان وباقي المؤسسات المنتخبة، ولذلك فالدواب عنها يجب أن يوجد في القوانين المرتبطة بالانتخابات وبالأحزاب باعتبارها التي تمنح التزكيات وتضفي شرغية أخلاقية من خلالها (أي التزكية)، مما يعضد قولنا بأن التذكير الملكي الأخير بوجوب إقرار مدونة للأخلاقيات قانونية وملزمة له علاقة باستراتيجية تقوية وتحصين المؤسسات، وليس جوابا عن متابعات قضائية يلتزم حرص جلالة الملك باعتبار رئيس المجلس الأعلى للقضاء على احترام المساطر القضائية، وعلى الفصل بين المؤسسات في إطار التكامل الاستراتيجي بينها.
ولذلك فإن التسريبات الأخيرة حول توجه مكتب مجلس النواب إلى منع البرلمانيين المتابعين أمام القضاء في حالة سراح، من حضور جلسة افتتاح الدورة الخريفية التي يترأسها الملك، ومن رئاسة أو التمثيل في لجنة برلمانية دائمة، أو لجنة لتقصي الحقائق، أو رئاسة فريق برلماني، أو تمثيل البرلمان في مهمة رسمية خارج الوطن، هو توجه يقع في نظرنا على النقيض من القانون الذي لا يحرم المتهمين والمشتبه بهم من قرينة البراءة وما يترتب عنها، وخصوصا أن الجرائم المتابعين لا علاقة لها بصفتهم البرلمانية، وبالتالي ليست هناك أي إمكانية لإتلاف حجج قد تدينهم، مما يقتضي حرمانهم من مزاولة نشاط ما.
بل إن هذا الحرمان الذي هو بمثابة عقاب، قد يكون مدخلا من مداخل التأثير على القضاء، باعتبار أنه يشكل إدانة مسبقة، ولو أنها إدانة رمزية.
في البحث عن تقاليد مواطناتية
صحيح أن الإيثيقا السياسية يجب أن تقود البرلماني المتابع من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من هذه المهام تعبيرا عن حسن النية وعن المسؤولية السياسية، مما يؤدي إلى بناء تقاليد سياسية حداثية ومواطناتية متقدمة، ولكن أن يتم إلزامه بما يخالف مبادئ احترام قرينة البراءة والحق في ضمانات المحاكمة العادلة، فمما يتعارض مع روح القوانين وروح دولة المؤسسات.
إننا نعتقد أن المدخل السليم لتحصين المؤسسات من تسرب عناصر الإفساد السياسي والمالي، ومن اعتبار البحث عن الصفة البرلمانية مرتبط ببناء علاقات مه نافذين أو بالتمويه على جرائم أخرى، خصوصا ارتبطت بتدبير الشأن العام من خلال المؤسسات التمثيلية الترابية، أو كانت جرائم حق عام من مثل الاتجار في البشر أو التجارة في الممنوعات أو الغش الضريبي وغيرها، هو تغيير القوانين الانتخابية وقوانين الأحزاب، لجعلها تحد من إمكانية وصول مثل هذه العناصر سواء إلى المؤسسات الانتخابية أو أن تكون جزء من التحكم في القرار الحزبي عبر المال والنفوذ.
إن القوانين الانتخابية، يجب أن تمنع كل من سبق أن تورط في جرائم تمس بالشرف والمروءة من قبيل نهب المال العام، او استغلال النفوذ، أو الاتجار في المخدرات، أو الاتجار في البشر، أو الاعتداءات الجنسية، أو الغش الضريبي، أو الفساد الانتخابي منعا باتا ونهائيا من الترشح للانتخابات، وليس منعا لسنوات محددة فقط، والأمر نفسه يجب أن يسري على الأحزاب السياسية عند انتخاب أمنائها العامين أو مكاتبها السياسية.
وآنذاك فإن مدونة الأخلاقيات ستكون مرتبطة بأخلاقيات العمل البرلماني، ويتم الاحتكام لها بخصوص ما ينبغي وما لا ينبغي للبرلماني (ة) أن يقوم به أثناء أو بسبب تأديته لمهامه البرلمانية، إذ لا يمكن أن نتصور إمكانية تطور العمل البرلماني بقوانين انتخابية وبقوانين أحزاب تسمح بأن يساهم في تشريع القوانين أشخاص إما لا يتوفرون على كفايات سياسية أو كفاءات قانونية ومعرفية، أو ساعون لخدمة مصالحهم الشخصية، أو غارقون في الفساد، وموصومون اجتماعيا بسبب ذلك، مما يؤدي إلى استمرار تراجع الثقة بالمؤسسات المنتخبة.