الاستراتيجي معتضد يوضح أسباب انزعاج ماكرون من المقاربة السيادية للمغرب وتحريك لوبي الدولة العميقة للحملات الإعلامية

الجمعة 15 سبتمبر 2023
No Image

أحداث أنفو - حاورته سكينة بنزين

في خضم المحنة التي ارتجت لها مدن المملكة مساء الجمعة 8 شتنبر، وبعد ساعات من محاولة استيعاب تلك المشاهد المرعبة والمحزنة القادمة من بؤرة زلزال الحوز، والزاحفة نحو مئات الدواوير المنكوبة، سارعت "فرنسا ماكرون" لتقديم عرضها بالمساعدة، وهو ما قابلته الرباط بشكر دبلوماسي، إلا أن الأمر لم يرق ساكن قصر الإليزيه الذي اختار تصفية حساباته الضيقة متواريا خلف رسائل إنسانية اختار على غير المعهود دبلوماسيا في توجيهها للشعب المغربي.

عن سبب هذا التشنج الفرنسي، وورطة ماكرون الداخلية والقارية الناتجة عن فكر دبلوماسي متجاوز، وعن أسباب غضب باريس من التدبير السيادي للمغرب للأزمة الحالية، وما يقابله من صمت رسمي، وغيرها من الأسئلة المتعلقة بتدبير هذه المرحلة داخليا، ومحاولات التشويش عليها من بعض وسائل الإعلام الفرنسية ... نحاور الخبير في الشؤون الاستراتيجية والدولية، هشام معتضد.



كيف تفسرون هذا التشنج الفرنسي من موقف المغرب الذي وضع قواعد محددة لتعاطيه مع عروض المساعدات التي تلقاها منذ الساعات الأولى للزلزال؟

التشنج الفرنسي من موقف المغرب، له مبررات سياسية مرتبطة بالفكر الفرنسي الدبلوماسي المتجاوز جيوسياسيا في محيطها الإقليمي، و الذي أبانت مؤسساته السيادية عن تعثرات فظيعة في تدبير علاقاته الخارجية مع مجموعة من الدول في المنطقة و أفريقيا، خاصة تلك المتواجدة في الفضاء الغربي للقارة.

فرنسا استفاقت متأخرة في فهم التطورات السياسية للفكر الجيوستراتيجي في المنطقة المغاربية و الأفريقية، و هي تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تحافظ على موازين القوى لصالحها كما كانت منذ خروجها كمستعمرة سياسية في العديد من البلدان الافريقية، لكن استفاقت الشعوب الافريقية و وعي تنظيماتها المدنية و السياسية لم تعد تقبل النهج الغير مسؤول للقيادة في فرنسا في تعاملها مع المنطقة.

المقاربة السيادية التي اختارها المغرب أزعجت كثيرًا السلطات و الرئاسة الفرنسية، لأنهم لم يعتادوا على مشاهدة بلد في المنطقة المغاربية و الافريقية يعتمد على منهجية ذات أبعاد سيادية و تدبير مسؤول دون التبعية الاستراتيجية للخارج في مثل هذا النوع من الاحداث و الكوارث.

الرئاسة الفرنسية و مستشاريها، خائفة جدًا من أن عدم قبول مساعدتها و اختيار الرباط للمقاربة السياسية في تدبير هذا التحدي الطبيعي، قد يؤثر على باقي البلدان الافريقية التي مازلت قيادتها تنصت لباريس و مضطرة لسماع توجهاتها و قبول منحها الغير بريئة سياسيًا.

يحاول الرئيس الفرنسي إظهار نفسه كمنقذ لعدد من الدول التي ينظر لها بمنظار استعلائي، على الرغم من مراكمته لعدد من الخيبات داخليا وأفريقيا، فلماذا في نظركم حاول الركوب على نكبة زلزال الحوز على الرغم من أن شروط نجاح "سيناريو بطولي" منشود أكثر انعداما في المثال المغربي ؟

ماكرون راكم الخيبات داخليا و خارجيًا، و أصبح يلقب برئيس المنصات الاجتماعية في تدبير شؤون الدولة الفرنسية، والرئاسة الفرنسية رفقت مستشاريها باتت تستنجد بمواقع التواصل الاجتماعي من أجل تضليل من يزال لديهم القليل من الأمل في سياسات ماكرون التي أدخلت فرنسا في نفق مظلم، و عبثت بتاريخ فرنسا المدني و السياسي و الثقافي على كافة الأصعدة.

القيادة الرئاسية في فرنسا اليوم، غير قادرة على تجرع نهضة الشعوب الافريقية و المقاربة السيادية للرباط، فهم لازالوا يعيشون على وهم فترة الاستعمار، و لزال فكرهم يقبع في زمن الاستغلال و الاستعلاء، و هو ما يضحك عليهم الأوروبيين و المنتظم الدولي قبل الأفارقة.

ماكرون عبث بشكل كبير و غير مسؤول بتاريخ الصداقة المغربية الفرنسية، و وضع حساباته الضيقة و رؤيته المراهقة للتدبير السياسي، على محك التقاليد السياسية و الدبلوماسية للرباط و باريس، و لم يعي أن مكتب الرئاسة الفرنسي ليس مختبرا لتجريب الأفكار و إنما مكان لتدبير التاريخ و الحفاظ على مكتسباته.

ضدا على الأعراف الدبلوماسية، وعلى الرغم من وجود موقف رسمي واضح من المساعدات الفرنسية ، اختار ماكرون فتح قناة تواصل مباشرة من خلال توجيه رسالة للشعب المغربي، هل تعتقدون أن هذه الخطوة كانت استفزازا محضا، أم بناء على تقديرات خاطئة تظهر أن الرجل يجهل طبيعة الجهة المخاطبة التي سارعت لانتقاد رسالته على حسابه بالانستغرام؟

توجيه خطاب مباشر للشعب المغربي دون مراعاة أي بروتوكول لمؤسسات الدولة السيادية، يترجم الانحطاط السياسي الذي تعيشه مؤسسة الرئاسة الفرنسية و تخندق التدبير الرئاسي الفرنسي في مجموعة الدول الشعبوية ذات عشوائية التدبير القيادي، و بالتالي يكون أول رئيس لفرنسا عبر التاريخ ينزع عن الرئاسة الفرنسية هيبتهما.

جرأة ماكرون الزائدة و التي دفعته لتجاوز الخطوط الحمراء اتجاه المغرب باعتماده لهذا الأسلوب الطفولي، ينذر بضرورة تدخل القوى الحية الفرنسية و الشعب الفرنسي على الخط من أجل ضبط زمام أمور الرئاسة و استعادتها في أقرب الآجال للحفاظ على ما تبقى من مكانة الرئاسة الفرنسية في فضائها السياسي.

سلوك ماكرون أبان عن افتقاده لأبسط مراجع التمييز السياسي في تدبير العلاقات المغربية الفرنسية، و يعكس مستوى مستشاريه السياسيين و دائرته السياسية التي أدخلت فرنسا في أعقد و أشد و أخطر مرحلة في تاريخها منذ نشأت فرنسا كدولة و وجود الشعب الفرنسي كأمة أوروبية.

رئاسة ماكرون عليها الانتهاء في أقرب الآجال، و ذلك تفاديا للمزيد من الخسائر الفادحة التي تعيشها الدولة الفرنسية، خاصة من أجل انقاذ شعب فرنسا الحضاري و الذي له تاريخ كبير في فن الدبلوماسية و قيم السياسة الحضارية، و لكن للأسف لم تكن ضمن رؤية و قيم رئاسة فرنسا الحالية.

وقعت بعض وسائل الإعلام الفرنسية في أخطاء مهنية جسيمة، وصلت حد اختيار عناوين بنفس تحريضي وتدخل في الشأن الداخلي إلى جانب التطاول على المؤسسة الملكية، كيف ترون هذه الحملة الإعلامية المسعورة وهذا المستوى من رفع حدة التعاطي مع قرارات جوهرية رسمت بنفس سيادي يرفض محاولات التدخل لما يجب أن تكون عليه الأمور في تدبير هذه الأزمة الثقيلة؟

بعض وسائل الإعلام الفرنسية، خاصةً الباريسية منها، و التي حاولت التلاعب بالرأي العام الفرنسي ضد المغرب، و قعت في خطأ جسيم برهن للعالم بأسره الحالة السياسية التي تعيشها بعض الصحافة الفرنسية، و التدبير الهش الذي يهيمن على جزء من الساحة الصحافية الفرنسية و التوجه الايدولوجي الذي يؤطرها من اجل خدمة أجندات معينة.

الحملة المسعورة و الممنهجة لبعض الأقلام الصحافية المحسوبة على مجموعات ضغط معينه مرتبطة بالدولة العميقة الفرنسية، أظهرت للعالم أن التغني بحرية الصحافة و محاربة الأقلام المأجورة،لا يعدو كونه شعارات استهلاكية لبعض المنابر الإعلامية الفرنسية و خاصة الباريسية.

هناك لوبي معين "معروف" في الدولة العميقة الفرنسية، و هو من يسهر على تمويل جزء كبير من الصحافة الفرنسية و خاصة تلك المتواجدة مقراتها في باريس، و هذا اللوبي تزعجه التحركات السيادية للمغرب، و لا يتقبل بأن تنفرد الرباط بتدبير هياكل دولتها باستقلالية سياسية تؤمن لها تطوير رؤيتها الاستراتيجية بعيدًا عن تصورات باريس في المنطقة.

تبني بعض المكونات الصحافية الفرنسية لخطاب محرض ضد سيادة الرباط و مصالحه، أدخلها في خانة ما يمكن تصنيفه بالصحافة المرتزقة و ذات خط اديولوجي يدافع عن من يدفع أكثر بعيدا عن أخلاقيات المهنة و قيمها الإنسانية النبيلة.

المتتبع لمواقع التواصل، يلاحظ انخراط المغاربة في التعبير عن رفضهم للانتقادات الموجهة للموقف المغربي من المساعدات الفرنسية، مقابل صمت رسمي سبق الزلزال بمدة طويلة، كيف تفسرون هذا الصمت؟

الرباط تجاوزت سوء الفهم الكبير بينها و بين ماكرون بتجاهل كل سلوك سياسي غير سوي و غير مسؤول ينبثق من دهاليز الرئاسة الفرنسية، و بالتالي فالصمت الرسمي للرباط اتجاه البهلوانية السياسية لبعض من خرجات رئاستها يندرج في إطار قيم و مبادئ الرباط في تدبيرها للأزمات السياسية مع دول تكن لقواها الحية احتراما كبيرا و لشعبها تقديرا تاريخيا.

القيادة في الرباط لا تختزل فرنسا في ماكرون و لا بعض من مستشاريه، لذالك فحكمة السياسة الخارجية للمغرب تحتم استحضار التاريخ و احترام الشعب الفرنسي، و بالتالي تفضل الصمت على التجاوب الغير مفضي لحل مسؤول مع أشخاص يدبرون المرحلة دون أدنى مراعاة للتاريخ بين البلدين أو احترام تقاليد المعاملات السياسية اتجاه السلطات في المغرب.

صمت القيادة في المغرب فرصة لمستقبل العلاقات التقليدية بين البلدين و بين الشعبيين الشقيقين المغربي و الفرنسي، لذالك فهذا الاختيار هو استعداد الرباط لمرحلة ما بعد ماكرون و مستشاريه، و بالتالي لم يعد هناك مجال للمجادلة السياسية في خضم أسلوب رئاسي فرنسي لم يعرف كيف يستوعب محور الرباط باريس و ينصت لانتظارات المغرب الاستراتيجية.

الصمت في حد ذاته خطاب سياسي واضح، و على القوى الحية الفرنسية التقاط إشاراته و أظن أن الشعب الفرنسي جد تواق لمرحلة ما بعد ماكرون، و ينتظر بفارغ الصبر طي صفحة رئاسية فرنسية هي الأسوء عبر تاريخ فرنسا المعاصر.

إلى أي حد ترون أن المغرب قد نجح وفق معايير أولية وتحت هول الواقعة، في تدبيره لهذه الأزمة بتداعياتها الثقيلة ذات البعد الإنساني والاجتماعي ، دون الاستعانة بمساعدات خارجية بعد أن اكتفى بقبول مساعدة أربعة دول في إطار التنسيق والإشراف المباشر للسلطات المغربية؟

المغرب، و كأي دولة كيفما كان وزنها الاقتصادي و السياسي، تنخرط و بمسؤولية كبيرة في تدبير حادث الزلزال بكافة الوسائل الاستراتيجية المتوفرة، وفقا لتشخيص ميداني تسهر عليه السلطات المعنية.

الرباط لها تجربة محترمة في رفع هذا النوع من التحديات، و ككل دولة فهي تشخص احتياجاتها للتدخل الناجع من أجل التقليل الممكن من الأضرار، و خاصة تلك المتعلقة بالإنسانية منها، بمقاربة سيادية و تشخيص مهني من لدن الفرق المغربية في الميدان، حيث اعتمدت السلطة في الرباط على فرق محددة ذات تخصصات معينة قادمة من دول صديقة و شقيقة، و ذلك دون غلق باب الاستعانة المجددة بأخرى في حالة الاضطرار.

أظن أن المغرب كان براغماتياً في ظبط المقاربة التي يريدها لتدبير هاته الأزمة، و هذا النوع من القرارات ترسل في الوقت ذاته إشارات سياسية عن الوضع القائم في البلد، و ديناميكية تدبير مساره الوجودي و قوة تماسكه الشعبي، و مكانة سلطته السياسية و الإدارية في هيكلة الدولة.

كخبير في الشؤون الاستراتيجية والدولية، ما هي الملامح التي تعتقدون أن المغرب رسمها لنفسه كدولة مؤسسات وسيادة خلال تعاطيه مع محنة زلزال الحوز؟

هذا الزلزال شكل امتحانا إضافيا لتماسك الأمة المغربية، و أبان عن صلابة ديناميكية الدولة بكافة هياكلها، كما أعطى صورة سيادية بخصوص السلطة في الرباط.

طريقة الانخراط السياسي و المؤسساتي للمغرب في التدخل العاجل في هذا الحدث الطبيعي، يبرهن مرة أخرى عن نجاعة المقاربة الاجتماعية لمؤسسات الدولة في التجاوب مع هذا التحدى، كما أن خطاب الرباط في ظل هذه الكارثة الطبيعية، قوّى من دون شك السيادة السياسية للمغرب و وضع مؤسسات الدولة في الواجهة الإعلامية من أجل الإثبات للشعب المغربي أولا ، أن ركائز الدولة جاهزة و حاضرة للتدخل من أجل حمايته و انقاذه، و هو ما يعزز روابط الثقة بين الشعب و مؤسساته.

على المستوى الخارجي، المغرب أرسل إشارات واضحة للعالم عن تماسك الدولة المغربية و تعبئتها الشاملة في مثل هذا النوع من التحديات، و الاستعداد الدائم لجل مكوناتها من أجل التضحية الوطنية لأجل تجاوز الصعاب و التحديات.

الشعب المغربي أرسل أيضا نموذجًا تضامنيا يحتذى به، و أسلوبا إنسانيا راقيا في التعامل مع هذا النوع من التحديات المجتمعية، و هو ما لقي إشادة دولية كبيرة من مختلف الدول و شعوب العالم.