وداعا خالد الناصري

يونس دافقير الجمعة 07 أبريل 2023
No Image

AHDATH.INFO



لا أكتب في الموت، فكرتي دائما أنه لحظة للصمت والتفكر فيه، وقد فعلت ذلك مرارا وتكرارا كما في رحيل الأستاذ عبد الواحد الراضي مؤخرا. غير أن الموت يستكتبني استكتابا لما تكون له علاقة بأشخاص أثروا في حياتي.

جملة من أربع كلمات قالها الأستاذ خالد الناصري، رحمة الله عليه، ذات يوم من تسعينات القرن الماضي، ساهمت في رسم مساري الدراسي والمهني.

أذكر أنه في أواخر سنة 1995 أو بداية 1996 نظمت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ندوة سياسية حول الإصلاح الدستوري، كان الدستور هو الأطروحة السياسية المركزية في ذلك الوقت، كان الأستاذ الناصري واحدا من المتدخلين في تلك الندوة عن حزب التقدم والاشتراكية، حليفنا الحزبي في تحالف الكتلة الديمقراطية.

منذ كتبت أول مقالة لي في الشؤون الدستورية سنة 1994 ونشرت في الصفحة الأولى لجريدة "أنوال"، وبالكاد كنت طالبا في السنة أولى حقوق وعمري 21 سنة، ظن الرفاق أني مهيأ لكتابة أرضية الندوة.

أسعدني ذلك التكليف/ التشريف، اعتكفت في برتوشي رفقة عشيرتي كازا سبور، ووضعت أفضل ما عندي فوق بياض الورق.

تكلفت الرفيقة نبيلة منيب بقراءة نص الأرضية بحكم أنها مسيرة الندوة، بينما جلست مع الحضور، لما انتهت الرفيقة من القراءة قال خالد الناصري: " هذه الأرضية جامعة مانعة".

لكم أن تتصوروا ما كانت تعنيه تلك الكلمات الأربع لشاب في سني، في الواقع اغرورقت عيناي فرحا وطربا لما قاله الرجل.، وددت لو قفلت لأقول بفخر : أنا كاتبها.

لم يكن الناصري وقتها شخصا عاديا، كان واحدا من قادة الكتلة الديمقراطية ومنظريها السياسيين وفقهائها الدستوريين. باختصار كان قامة كبيرة في زمني السياسي الصغير.

ومع ذلك، لم يكن خالد الناصري قريبا من اختياراتي السياسية، موقفه وموقف التقدم والاشتراكية من حرب الخليج الأولى كان على يمين اليسار، ولذلك كتب الرفيق علال الأزهر يومها كتابه عن التقدم والاشتراكية " حين يرتد السلاح إلى الخلف".

والأمر نفسه في الموقف من دستور 1992 الذي دافع الناصري عن التصويت له عكس موقف الكتلة وهو ما وضعه خارجها، وتكرر نفسه في الموقف من مقترح التناوب التوافقي سنة 1993 حيث كان مع المشاركة في الحكومة ...

غير أن الناصري يختلف عن كثيرين في مسألة أساسية: قدرته النظرية والفقهية على التأسيس لمواقفه، حتى وهو يدافع بشكل جد محافظ عن عدم قابلية الظهير الملكي للطعن أمام القضاء الإداري في إطار مسطرة الشطط في استعمال السلطة.

حتى وأنت تختلف معه، يجعلك خالد تحترم أسلوبه ومجهوده في بناء فكرته أو موقفه.

ساهم الناصري في تشكيل وعيي وتكويني الدستوري، وجعلني من بين آخرين محبا وولعا بإشكالات الدستور، وكما أخذت عن الدكتور محمد معتصم نظريته حول التقليدانية في النظام السياسي المغربي، وعن الدكتور أحمد أشركي تحليله للظهير ومكانة الوزير الأول في نظامنا السياسي، وعن الدكتور عبد اللطيف أكنوش تحليله للمشروعيات المركبة للعاهل المغربي .. أخذت عن خالد الناصري ثنائي المستوى الأعلى المغلق من السلطة ومستواها الأدنى المفتوح ...

يعرف الجيل الحالي خالد الوزير، وقليلون يعرفون الناصري المنظر والفقيه.

ثم ماذا حدث؟ حدث أن التحقت أحزاب الكتلة ( باستثنائنا في منظمة العمل) بتنظيرات خالد الناصري، صوتت لدستور 1996 رغم أنه كان أسوأ من سابقه، وشاركت في حكومة التناوب سنة 1998 رغم وجود ادريس البصري الذي تم رفض التناوب بسببه سنة 1993.

تميز خالد كذلك بصوته الجهوري اللذيذ في مداخلاته، وتسلسل أفكاره في الحديث، وانسجام حركاته الجسدية مع نشاطه الذهني، في الواقع ولولا ربطة العنق والبذلة العصرية، لكانت ملامحه بشعره الأبيض على جانبي صلعته والنظارات فوق منتصف أنفه، أقرب إلى الفيلسوف منه إلى السياسي أو الوزير.

وقد كان صاحب فلسفة سياسية في النظرية والممارسة، وفي الربط بينهما.

هل كان الناصري مستشرفا للمستقبل بإمكاناته الواقعية أكثر من أقرانه في الكتلة الديمقراطية ؟ ممكن نعم وممكن لا. لكنه كان دارسا جيدا لميزان القوى في الصراع السياسي، ومع ذلك لم يزايد أبدا ولم يفاخر، لم ينفخ ريشه ليقول أنه كان من كبار مهندسي الانفتاح السياسي لبداية التسعينات والتناوب السياسي لنهايتها.

قد أكون تعلمت من الناصري مرونته السياسية، ووضوحه الذهني، وجرأته في الإختلاف زمن قسوة الخروج عن الاتفاق ...

لكن المؤكد عندي هو أن جملة " هذه أرضية جامعة مانعة" التي قالها في حق ما كتبت في بداية مشواري السياسي، كان لها أثر من بين تأثيرات أخرى على توجهي السياسي في الصحافة، وعلى إغلاق مسار التعليم الجامعي لصالح بلية التحليل الدستوري في كتاباتي السياسية والصحافية على مدى يقارب 27 سنة.

رحم الله أستاذنا الجليل.