الكلام المنسي في كلاشات نعمان لحلو وديزي دروس

بنزين سكينة الأربعاء 22 فبراير 2023
No Image

AHDATH.INFO - بقلم سكينة بنزين

أن تبدي فئة من الشباب انبهارا بأغنية الرابور "ديزي دروس"، هذا شيء جميل جدا و متوقع جدا بل ومطلوب جدا جدا من باب تنويع المشهد، والانفتاح على فن، القوة الضاربة فيه للكلمة والقدرة على التلاعب بالمعنى ، في وقت أصبح فيه الناس ضحايا عسر الكلام المرتبط أساسا بعسر الفهم والتفكير.

وإذا كان المتتبع يفهم مبررات الهجوم الذي تعرض له الفنان نعمان لحلو، من طرف "ممتهني" هذا اللون الغنائي المتشعب في أصل نشأته وفي فروعه المعاصرة ، وكذا معجبيهم الذين لا يكترثون لمعرفة أصل الأشياء، وعدد من راكبي موجات التراند والبوز اللامتناهية، خاصة مع "همزة فنية" حققت لحدود الآن أزيد من 16 مليون مشاهدة، فإن المستغرب جدا والمستهجن هو موقف بعض المحسوبين على دوائر التفكير والتنظير وحاملي الصفات الأكاديمية، الذين كانوا من بين المنجرفين في النقاش بدل أن يكونوا من المساهمين فيه.

غريب جدا هذا "الجبن الأدبي" الذي أصبح يتلبس المساهمين في ما بقي من جدل ونقاش على الساحة، حيث الكفة الراجحة لعدد اللايكات التي تحدد أي المعسكرات الرابحة يجب أن تلتحق بها لتعفي نفسك من قصف النقد والتنمر والتهكم، أو طمعا في أن "ينوبك من حب اللايكات والشهرة جانب"، حتى لو كان على حساب خلق فرصة تقاطع عابر بين جيلين وذوقين ورؤيتين، لا يشترط فيه أن يكون متطابقا، بقدر ما يشكل فرصة لإعطاء نموذج حول أدب الاختلاف وتقبل النقد وفتح قوس على معرفة مستويات أخرى تفوق حدود أنف المنبهر.

المستمع للأغنية سيجدها جميلة في سياقها، تماما كسابقتها المتنبي التي كانت مميزة "حسب ذوقي طبعا". إلى هنا كان من المفروض بالقصة أن تنتهي وسط المعجبين بهذا النوع من الفن، لكن الأمر سار في منحى ما كان لصاحب الأغنية نفسه أن يتخيله، فقط لأن عددا من أبطال مواقع التواصل الباحثين عن حطب لإشعال أي نقاش يبعد عنهم رعب النسيان السريع الذي يلتهم " النجوم الافتراضيين"، اختاروا أن ينفخوا في الدلالات والرسائل والتوزيع الموسيقي والصور الفنية تمهيدا للازمة التي أصبحت بدون معنى "عطاهم العصير".

بل من الغريب أن البعض لم يتردد في كتابة تدوينات تسخر وتتساءل عن سبب عدم الإشادة بالأغنية "الحدث" التي وضعت اليد على الجرح، وأحرجت رئيس الحكومة، وتناولت موضوع الهجرة والاعتقال وغيرها من القضايا التي اكتشف البعض أنها مواضيع لم يسبق لأحد أن تناولها من قبل، مع أن العارف بأبسط أبجديات هذا الفن، أنه يفرد مقاطع كاملة لكل قضية مما سبق، بالتفصيل بدل المرور عليها مرور الكرام .. هذا ليس نقدا للأغنية طبعا، لكنه انتقاد لأسلوب"تضخيم ما لا يتحمل التضخيم"، وما لا يليق أن يجرف في طريقه من له كامل الحرية في أن يقول : "أستسمح، الأغنية ليست بهذه البراعة"، خاصة من يملك مراكمات في ذاكرته الفنية التي تسعفه على القول أن طريقة التصوير جميلة جدا، لكنها ليست مبتكرة، بل مجرد تقليد لمشاهد مجترة في مئات الأعمال الأجنبية، و حتى البصمة المغربية الجميلة التي اعتبرها البعض بأنها استثمار خارق الذكاء للفئة المهمشة في هذا العمل الفني، فمن المؤكد أنه لا يعلم أن الراب خرج من بؤر التهميش والفقر والجريمة والاستغلال، قبل أن يرتبط في ذاكرة بعض شباب اليوم بالحفلات الصاخبة وارتداء جبل من الماركات ...

من المخجل جدا أن ينتابنا هذا الخوف من الاختلاف، وهذه الانتهازية التي ترى أسفل قدمها، وتخلط بين موقف معجب "عادي" مع كل التحفظ على الصفة التي تشير للمقابل "المختص" ، المفترض فيه نقل النقاش نحو مستويات أعلى تفتح قوسا على تجربة الاختلاف، فبدل مجاراة الشباب باعتباره السيد الآمر الناهي في عدد المشاهدات وتوجيه دفة النقاشات الافتراضية الانفعالية القادرة على وضع خيارين قاتمين، إما مع أو ضد، كان يجدر بمن يقدمون أنفسهم بعقلاء الفايس المنتقدين للشيء ونقيضة، أن يقولوا : مع كل الاحترام للذي قيل، لكن هناك ملاحظات.

صحيح أن الملاحظات الخارجة عن سياق ما يطلبه المشاهدون، الذين لا يملكون في المحصلة قرار الطلب وإنما يوجهون له توجيها دون إدراك منهم، ثقيلة على الفهم مقارنة بطيش ما تتقاذفه التريندات التي يلتهم بعضها بعضا في مدة قياسية، لكن لا بأس من قولها بين حين وآخر بدل مجاراة الفئة الغالبة افتراضيا، لذلك قد يكون من المنصف القول لكل من تهكم على الفنان نعمان لحلو ، أن الرجل لم يرتكب جرما حين وجه النقد، وأنه ليس بعيدا عن الموضوع فقط لأنه لا يؤدي هذا النوع من الغناء، ببساطة لأن الفن باختلاف أصنافه ليس حكرا على شخص أو فئة عمرية، كما أنه ليس وحيا مقدسا يعفي من "التطاول".

وإذا كان من الطبيعي لأي معجب الدفاع عن فنانه وذوقه وأعماله التي يحفظها عن ظهر قلب، فلا بأس من استغلال مواقع التواصل لتذكير الفئة الأكثر شبابا، أنه من الطبيعي أيضا وجود منتقدين بمواقف مغايرة ، ليس من باب الاستخفاف بالأذواق أو تبخيسها، لكن من باب النظر للموضوع من زاويا مختلفة، يتداخل فيها التاريخي بالاجتماعي والسياسي والإبداعي والتسويقي .... فمن الجميل أن يعرف عشاق "العشران" أنه قبل ديزي دروس كان هناك عشاق لكول هيرك ورفاقه الذين يتموضعون اليوم خارج خانة "الشباب"، فهل يستقيم إن انتقد أحد منهم اسما شابا أن يشتم بأنه من جيل لا يفهم ؟، وقبل ولادة الكلاش كان هناك هجاء، وقبل عبارة عطاهم العصير التي تقال بعد أن يجتر الشخص نفس النقد الذي بات اليوم متاحا، كان هناك مثقفون ومعارضون وصحفيون وكوميديون وفرق موسيقية تمثلت معاناة الناس واقعيا وليس افتراضيا، وبدون مقابل مال أو شهرة أو عرفان، وقبل أن يتوهم البعض أن أمريكا تصدر ذوقها، فإن الدارس والباحث من أمثال الفنان نعمان لحلو، يدرك أن افريقيا تسترجع عن طريق بعض الألوان الغنائية جزء من إرث أجدادها الذي يذكرها بأن النضال ضد فكرة العبودية لم ينتهي بعد أن تلونت ملامحها المعاصرة، بانتظار أن يتقبل الناس برحابة صدر، تعدد ألوان أذواقهم ومواقفهم وأفكارهم ... لأن هذا هو الكلام المنسي في فوضى كلاشات جمهور المعسكرين