الكاتب العراقي علي الصراف يكتب..الجزائر في سباق الفساد الذي لم يضارعه أحد

متابعة الأربعاء 25 يناير 2023
No Image

AHDATH.INFO


قال الكاتب العراقي علي الصراف، إن الغزاة "الوطنيين" الذين احتلوا الجزائر بعد رحيل الاستعمار أثبتوا أنهم قادرون على أن يقدموا نموذجا للفساد لا يحلم أيّ أحد في مجرة درب التبانة أن يبلغ مستواه. وفيما يلي المقال كاملا:



إذا كنت تعتقد أن العراق، الذي أسسه الأميركيون والإيرانيون في العام 2003، هو أفسد بلد في المجموعة الشمسية، فقد تأكد الآن، أن الجزائر هي أفسد بلد في درب التبانة.
فإذا شعر الملايين من العراقيين بالمرارة من أن هناك من تجرأ على أن يسرق 2.5 مليار دولار من الحسابات الحكومية، في عمل نظمته أربع شركات برعاية ميليشياوية، فقد أعلنت السلطات الجزائرية عن العثور على ما يعادل 34 مليار دولار في أحد المنازل، وسط قناعة بأن هناك “منازل” أخرى تخبّئ ما لا عد له ولا حصر حتى الآن من المليارات. قبل هذا المبلغ الفلكي، كان الرئيس الجزائري نفسه أعلن في 22 ديسمبر الماضي عن استعادة 20 مليار دولار من المنهوبات.
وما من أحد يمكنه أن يقدر حجم المرارة التي يمكن أن يشعر بها الجزائريون. إذ ظل بلدهم يُنهب أمام أعينهم باسم "الثورة" و"التحرير" و"الاشتراكية" ومعها "الديمقراطية الشعبية" أيضا. حتى ظلت البلاد تحمل هذا الاسم الخرافي حتى الآن.
العراق الذي أسسه الأميركيون والإيرانيون على قاعدة "المحاصصة الطائفية"، أصبح الفساد فيه شرعيا، حتى تمكن من بناء شبكة منظمة جعلت النظام السياسي برمّته نظام فساد.
الحال نفسه تكرر في الجزائر التي أسستها عسكرتاريا جبهة التحرير الوطني الجزائرية. إنما بتجربة، يجب الاعتراف بأنها أقدم من تجربة الغزو الأميركي للعراق، وأكثر كفاءة أيضا، بالنظر إلى أنها ظلت مغطاة لوقت أطول.
فقد ظل الغزاة في الجزائر، يظهرون وكأنهم ثوريون، ومجاهدون، وأبناء شهداء، قبل أن يثبتوا أنهم أسوأ من الأميركيين والإيرانيين معا.
الأحزاب الطائفية في العراق لا تقول إنها أحزاب "تحرير" على الأقل. ونظام "المحاصصة" هو نظام نهب معلن، ولا يتخفى وراء أوصاف مزيفة. 34 مليار دولار تعادل سرقة 425 مليون برميل نفط بأسعار السوق الحالية (80 دولارا).
وحيث أن الجزائر تنتج نحو مليون برميل من النفط يوميا، فإن تلك السرقة تساوي إنتاج النفط لأكثر من 14 شهرا.
الرئيس عبدالمجيد تبون وجّه ما اعتبره "آخر نداء" لـ"أصحاب الأموال المكدسة" لإيداعها في البنوك. وقال "لقد قدمنا ألف ضمان لحماية المواطن والاقتصاد الوطني". ولكنه يعرف أن اللصوص لا يضعون أموالهم في البنوك.
أما الفقراء ومتوسطو الدخل، فإنهم لا يثقون بالحكومة ولا بالبنوك. والذين يرفعون أيديهم للسماء بالدعاء "اللهم ارزقنا خبزنا كفاف يومنا"، فليس لديهم ما يضعونه هناك بالأساس.
التقديرات المعلنة تقول إنه في عهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وحده بين العامين 1999 و2019، تم نهب ما قد يصل إلى 200 مليار دولار. وإن "قائمة الأشخاص الذين ارتبطت أسماؤهم بملفات الفساد تضم نحو 200 شخصية ممن تقلدوا مناصب عليا، كوزراء ومديري مؤسسات عمومية وخاصة ورجال مال وأعمال".
والجزء الأعظم من هذه الأموال تم تهريبه إلى ملاذات ضريبية في الخارج، كما تلقت العديد من المصارف الأوروبية المليارات من الدولارات التي تعود أصولها إلى الجزائر، بأسماء وهمية، أو بأسماء أقارب وأصدقاء.
ما يهم في الأمر، هو أن عهد الرئيس بوتفليقة، يساوي نحو نصف عمر الجزائر المستقلة. وهو يعني أن البلد الذي قدم مليونا ونصف مليون شهيد في المعركة من أجل استقلاله، وقع تحت سنابك غزاة جدد.
وعندما حاول مواطنوه أن يطالبوا بالتغيير، انتصرت عليهم العسكرتاريا نفسها التي رعت شبكات النهب.
ولكن في جانبه المدني فقط. فيرضى عنه الجانب الآخر. رغم أن الطير لا يطير إلا بجناحين. معظم المشاريع الحكومية، كما يقر بذلك مجلس المحاسبة، كانت مصدرا لتبديد المال العام عن طريق تضخيم قيمتها بما يصل أحيانا إلى 900 في المئة.
والكثير من الأموال كانت تصرف من دون فواتير رسمية. ويتم ابتداع أعمال لا يتم تنفيذها، كما يتم إنشاء صناديق للرعاية الاجتماعية من دون أن تصل الأموال إلى مستحقيها. هذه الأعمال لم تشمل رؤساء وزراء ووزراء ومدراء عامين ورجال أعمال إلا لتثبت أن هناك شبكة نهب مؤسسية شاملة، هي الدولة وهي النظام.
وما من عاقل يستطيع أن يزعم أن هذه الشبكة مدنية فحسب. هذه كذبة أكبر من أن يصدقها أيّ أحد.
صحيح أن مجالات الفساد في "جيش التحرير الوطني" مستقلة ولها شبكتها ومشاريعها وبرامجها وميزانيتها الخاصة، إلا أن أحدا لا يستطيع أن يصدق أيضا، أن هذه الشبكة لم تكن مرتبطة بالأولى. إنها مافيا واحدة بالأحرى، يرعى بعضها بعضا.
وعندما فاق الفساد كل حدود المعقول، وأصبحت مكافحته "شرا لا بد منه" فقد أطيح بشق دون آخر. وبقي فساد العسكرتاريا في منأى عن أن تمسه "المكافحة"، مما يثبت أنها محاولة لذر الرماد في العيون، فقط. ويتم تنفيذها إلى حين، قبل أن تعود المياه إلى مجاريها.
اختلاق نزاع مع المغرب حول صحراء هذا البلد، كان وما يزال واحدا من أهم أغطية الفساد في الجناح الثاني لطير الفساد. فبفضله تعقد الصفقات، ومن خلاله تتحول العقود والمشتريات إلى كنز لا ينضب للقادة العسكريين وأتباعهم، الذين لا يحاسبهم أحد، ولا يناقش عقودهم أحد، ولا يخضع إنفاقهم لمراقبة أحد، بل إن القانون يمنع البرلمان نفسه من مساءلة وزارة الدفاع عما تفعل بالمال العام.
هذه الوزارة تنظر إلى هذا المال، على أنه حصتها من نظام “المحاصصة” القائم في البلاد.
تخيّل لو أنه لم يكن هناك نزاع مع المغرب، فماذا سيفعل قادة "جيش التحرير الوطني"؟ على الفور سوف تظهر لديهم مشكلة تستعصي على الحل. ما يجعل استمرار النزاع، وتغذيته، وتصعيده هو الخيار الوحيد.
هذا النزاع يستمر، ويتحول إلى حرب دبلوماسية وسياسية واقتصادية، وتُجنّد لها المعاندات والأحقاد، بشعارات "تحريرية"، إنما لتغطية خمسين عاما من أعمال شبكة النهب غير الخاضعة للمراقبة. لأكثر من عام تظاهر الجزائريون من أجل التغيير. طالبوا بنظام جديد تخضع كل مؤسساته للمساءلة وتدقيق الحساب.
ولكنهم حصلوا على إصلاحات مزيفة، تطيح بمَنْ تجوز الإطاحة به، وتُبقي قادة الشبكة ومنظمي روابطها، بمنأى عن المساس. الغزاة "الوطنيون" الذين احتلوا الجزائر بعد رحيل الاستعمار لم يثبتوا أنهم أقوياء على شعبهم فقط.
لم يثبتوا أنهم يتدبرون أمورهم جيدا. لم يثبتوا أنهم قادرون على تدوير الكراسي وقلبها، ولكن أثبتوا أنهم قادرون على أن يقدموا نموذجا للفساد والطغيان لا يحلم أيّ أحد في مجرة درب التبانة أن يبلغ مستواه.
لقد صنعوا نظاما يحمل كل الأوصاف المزيفة. وينفذ كل المشاريع المزيفة. ويخوض كل المعارك المزيفة، من أجل منزل تُدفن فيه المليارات من الدولارات.