«الماتش» الآخر!

سعيد نافع الجمعة 16 ديسمبر 2022
No Image

AHDATH.INFO


أنهت الحاجة عايشة كل أعمال البيت ساعتين قبل المباراة، ونظفت ما ينتظرها في المطبخ وفي باقي أرجائه كمن تنتظر قدوم ضيف فوق العادة. تعرف الحاجة عايشة أن أبناءها الأربعة لا يتابعون المباريات الكبرى في البيت، وأن كل واحد فيهم يفضل التواجد في موقع معين، كل حسب أهوائه، سواء خلال مباريات أنديتهم المفضلة أو المنتخب الوطني. وعلى الرغم من أنها كانت على علم بهذه الاختيارات التفضيلية «للفراجة» لدى أبنائها، إلا أنها أصرت على أن ترافقهم، ولو عن بعد، في انفعالاتهم المختلفة خلال المواجهة. فالحاجة عايشة «كتهز الهم» للارتباطات العاطفية لأبنائها كثيرا.

جلست أمام شاشتها الصغيرة في صالون البيت لتتابع المباراة على التلفزيون، لأن قنوات القطب العمومي تنقل مباريات المغرب في كأس العالم كما أخبرها أكبر الأبناء خالد، لكنها أصيبت بإحباط كبير بعد أن تعذر عليها العثور على القنوات الناقلة. اضطرمت في دواخلها مشاعر متضاربة، وساورتها فكرة الاتصال بأحد الأبناء ليحل إشكال التقاط الإشارة، لكنها تراجعت في آخر لحظة، مفضلة أن تترك كلا منهم في عالمه الخاص قبل المباراة، وأن تتفادى بأن تفرض عليه تنقلا مفاجئا قد يخلط عليه أجندة اليوم.

وعلى الرغم من البرودة السارية في الأجواء في المملكة هذه الأيام، إلا أن الحاجة عايشة فتحت النافذة الكبرى المطلة على الشارع لتلقي إشارات تفاعل العابرين والسكان وزبناء المقهى القريب تباعا، كوسيلة حل مباشر أمام تعذر حلول الإشارة على الشاشة. ساد الصمت طويلا وزاد من حيرتها تناهي أصوات صرخات فرح غير مكتملة. فهمت بما توفر لديها من خبرات فرجوية سابقة مع الأبناء أن الأمر يتعلق أكثر بمحاولات على مرمى الخصم الإسباني، لم يكتب لها أن تهز الشباك.

بتقدم زمن المباراة، لا شيء جديد. زادت الحيرة والترقب، ولم تجد الحاجة عايشة بدا من أن تلوذ بالصلاة والدعوات المسترسلة كرغبة منها في المساهمة في المجهود الخرافي للركراكي ولاعبيه على الميدان، وكرغبة أكبر في أن تشاهد تلك الفرحة التي رأتها في أعين أبناءها الأربعة قبل أيام، تتكرر مجددا. استخرجت من ذاكرتها الطبيعية كل الأدعية التي تناشد الله في السماء بأن يشجع الأقدام المغربية ويغلق المرمى أمام الهجمات الإسبانية.

بين دعاء وآخر، كانت تلقى نظرة من النافذة على الشارع عسى أن تتبين الجديد. لكن الصمت استمر أكثر من اللازم. تخيلت أن وقت المباراة قد انتهى، وبما أن الشباب مازالوا جالسين في المقهى إذن المباراة لم تنته بعد، هكذا رددت طويلا قبل أن تعود للدعاء، ولإعمار ذلك الفضاء الفارغ الكبير في البيت جيئة وذهابا.

ثم انفجرت صرخة فرح كبيرة في الشارع تحت البيت. لم تشعر الحاجة عايشة إلا وهي وترتمي على النافذة لتعاين ما الذي يجري. انفجرت دموعها أنهارا من الفرح حين تراءت أمامها تلك الأعلام الحمراء والخضراء وهي تتراقص منتشية بانتصار تاريخي باهر.

عاد الأبناء في نهاية المساء، وكانت الحاجة عايشة قد أعدت لاستقبالهم كل ما يهفو له قلبهم من أكل وشرب وزادت فيه. كانت فرحانة لفرح أبناءها أكثر من أي شيء آخر.

الحاجة عايشة انتصرت في مباراتها الخاصة أيضا.