AHDATH.INFO- حاوره: يونس دافقير/ تصوير: محمد وراققال المؤرخ والباحث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك مصطفى بوعزيز في حوار مع الأحداث المغربية وموقع أحداث أنفو إن الدولة ليست وحدها مسؤولة عن ترددات الانتقال من المحافظة إلى الحداثة. فيما يلي نص الحوار*أفردت في منجزك العلمي «الوطنيون المغاربة في القرن العشرين» حيزا كبيرا لتحليل ما أسميته ترددات هؤلاء الوطنيين في الانتقال إلى الديمقراطية، وقد حصرتها في الملكية، الدين، والهوية. أنت عاشرت الراحل عبد الرحمان اليوسفي في اجتماعات القيادة العليا للكتلة الديمقراطية. إلى أي حد يشكل اليوسفي نموذجا لهذه الترددات؟** لنا طموح كمغاربة في الانتقال إلى الحداثة والتأسيس للحداثة المغربية، ولكن في هذا الانتقال من المحافظة كبنية إلى الحداثة كبنية مغربية، هناك ترددات، وهذه الترددات الموجودة الآن في الحالة الحالية هي أربعة في نظري.إذا قمنا بمقاربة دائما من فوق لما يعتمل في عمق المجتمع المغربي، سنجد أن هناك أربع مجموعات فكرية عقلية اجتماعية موجودة في المجتمع، وفيها توجهات وكل توجه فيه تردد كبير.هناك توجه ملكي يخترق كل المجتمع ولديه جذور في المجتمع، وهو مبني على المجتمع البتريياركي والشيخ والقبيلة، هو نموذج يتوالد من الخلية الصغيرة للأسرة، وهذا التوجه رغم أن له حدس ربما أقوى من الفئات الأخرى بأن هناك مشكلا مع العصر وبأنه يجب الانتقال إلى العصر، لكن في كل مستوى من مستوياته هناك تردد، وهذا التردد موجود في المستوى السياسي.التردد، الذي كان لدى سيدي محمد بنعبد الله ظل موجودا عند الحسن الثاني، يعني رغبة في التفاعل مع العصر، لكن وفي نفس الوقت هناك خط أحمر لا يمكن تجاوزه هو التردد. وهذا التردد موجود في نوعية الشرعية المؤسسة للنظام السياسي المغربي الذي هو نظام محافظ مبني على شرعية محافظة ليست عنصرا ضمن النظام السياسي بل هي خارجه، وهي سامية على كل الشرعيات الأخرى قبلية أو دينية أو علمية.والآن دخل المغرب إلى التجربة الديمقراطية من خلال الانتخاب واختيار ممثلي الشعب، وهي شرعية شعبية لكنها لازالت دون الشرعية الملكية الدينية والتاريخية التي هي شرعية أسمى، والحداثة لا يمكن أن تتأسس في مثل هذا النظام إلا بسمو الشرعية الشعبية على كل الشرعيات الأخرى بما فيها الشرعية الملكية، وهذا فيه تردد ومايزال منذ عهد سيدي محمد بنعبد الله.ثم هناك توجهات التحرر الوطني التي كنت أسميها في أبحاثي «الحركة الوطنية المغربية»، ثم أسميتها «الحركة الوطنية الديمقراطية»، أما في العمق فهي توجهات تحررية وطنية، أي أن لديها مفهوما سياسيا للوطن، وهذا ما يفرقها عمليا عن الفكر وعن التصورات والتوجهات المحافظة. كلمة الوطن لم تكن تعني التراب، كانت تعني دينيا في التعبير مقولة «حب الأوطان من الإيمان» وعندما نسأل الفقيه ما هي الأوطان يقول مكة والمدينة، وهو مفهوم روحي للوطن مرتبط بالأمة الإسلامية، لكن الوطن الترابي هو جديد عند المغاربة، والأرض كانت تسمى أرض الإسلام أو أرض السلطان، والحدود بشرية وليست ترابية، أي أينما كانت قبيلة أو مجموعة بشرية بايعت السلطان ووضعت البيعة في عنقه فهي أرض الإسلام وأرض السلطان، لذلك ظل الوطن خاضعا لهندسة متغيرة، قد يتوسع وقد يضيق.لم ينتج المغاربة مفهوم الوطن الترابي إلا حديثا، يعني بعد احتلال الجزائر في 1830 وحتى بعد احتلال الجزائر وقع اضطراب بين 1830 و1844 لأن سكان غرب الجزائر أتوا إلى السلطان مولاي عبد الرحمان وعلى رأسهم الشيخ محي الدين فبايعوا السلطان مولاي عبد الرحمان لأن فرنسا دخلت الجزائر المدنية، المواصلات كانت ثقيلة والمقاومة منعت الاستعمار الفرنسي من الوصول إلى الغرب، فبايع هؤلاء الأعيان السلطان المغربي لكنه تردد، وعندما استشار علماء القرويين قالوا له إنه لا يجوز لسلطان المسلمين أن يرفض بيعة المسلمين، فقبل وبعث ابن عمه وحكم لمدة سنتين منطقة تلمسان، ولكن مع السنوات، ومع الحس السياسي للسلطان مولاي عبد الرحمان، لأن فرنسا أقوى بجيشها، بدأ يتراجع وقال للجزائريين أنتم إخواننا المسلمين، لكن أنتم جزائريون ونحن مغاربة، والحدود بيننا هي الحدود التركية، قاوموا ونحن نساعدكم، هنا بدأت مقاومة الأمير مولاي عبد القادر والمقاومة الجزائرية، إذن بروز الوطن الترابي…[gallery link="file" size="square" ids="599746"]* (أقاطعه) في هذه الترددات التي تحدثت عنها، هل نفهم من تحليلك أن سببها هو الاكتشاف المتأخر لمفهوم الوطن؟**حين جاء مفهوم الوطن الترابي في صراع المغاربة مع الاستعمار وانهزامهم أمامه، بدأ جيل آخر يقول بضرورة التحرر لأن لنا وطنا، هذا الوطن الترابي أسس فوقه وطن سياسي، بمعنى أننا شعب، وكلمة شعب لم تكن موجودة، وبين قوسين هي غير موجودة في الدستور، هي كلمة جديدة، إذن هذا التأسيس السياسي هو الذي أدى إلى تجنيد فكرة الاستقلال، وهو مبني على ما اجتماعي، أي أننا المغاربة وضعيتنا هي دون وضعية الأجانب، نحن مجرد أهالي في الدرجة الثانية، لذلك تأسست الوطنية كصراع ضد الدونية هي تريد أن تقول: نحن لسنا دون الآخرين، وقضية الإصلاح نحن بإمكاننا أن نصلح، وبدأ مفكرو الحركة الوطنية يبلورون تصوراتهم، هذا أسميه الوطن السياسي فوق الوطن الترابي، ناضلوا وحققوا الاستقلال بالرغم مما عانته الملكية من استدراج من طرف الاستعمار، في التاريخ الرسمي لا نقول إن السلطان مولاي يوسف وقع الظهير البربري، نسكت عن ذلك، ونقول المغاربة انتفضوا ضد الظهير، ولكن الحركة الوطنية هي التي أوضحت للسلطان أن هذا الظهير بتفريقه بين العرب والأمازيغ سيمس الملكية أولا وهو ما وعته الملكية، فتأسست تلك العلاقة بين الحركة الوطنية والملكية.التحرر من الاستعمار كان فيه بطبيعة الحال التراب، وفيه أيضا تصور الدولة الوطنية، اكتسب الوطنيون الشرعية ولما حاولوا بعد الاستقلال إدخال فكر آخر فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان وقع نوع من التناقض نسبيا، هل نقبل بالتباري الديمقراطي داخل أحزابنا؟ كانت القيادة السابقة هي التي تنتقي أعضاء جددا وتضيفهم للقيادة السابقة وتقيل بعض الذين توفوا أو تعبوا.. كانت الأمور هكذا ثم أضيفت إليها لجنة الترشيحات، أي نعين بعض الناس الذين سيختارون القيادة، يتم إحضار لائحة يصوت عليها المؤتمر، لكن في العمق فيها مزج بين الجديد والقديم.التحرر موجود، الكونية موجودة، الوطن موجود، الارتباط مع الملكية موجود لكنه مبني على تعاقد بين الشرعية التاريخية والدينية للملك مع الشرعية التحررية التاريخية للحركة الوطنية. البحث عن هذا التعاقد هو الفرق بين هذا التوجه والتوجه الملكي الذي ظل يدافع عن السيادة المطلقة للملك. لكن سقف الدمقرطة، أي أن يضعوا شرعيتهم هم في امتحان الانتخاب الحزبي أو الجمعوي كان محدودا، وأنت عشت ذلك في التسعينات حين أسس السي عبد العالي بنعمور جمعية بدائل..*(أقاطعه) سعت لإعادة هيكلة الحقل السياسي.** كان بنعمور يقول إن الاحزاب غير ديمقراطية، وهو ظل في هذه الأمور إلى أن تم لفظه، لأنه بدوره من نفس التوجه، حيث ظل يعتبر نفسه صاحب شرعية من المجتمع المدني أكبر من شرعية الآخرين، هذا التوجه ظل يتردد في أن يستوعب الدمقرطة وأن تصبح آلية لا نقاش فيها.بعد التوجهين السابقين، أي التوجه الملكي والتحرري، هناك التوجهات الإسلامية أو الإسلاموية حسب ما إن كنا نريد أن نكون منظرين أو مؤدبين، توجهات فيها هي أيضا فصائل مختلفة. هذه التوجهات ناتجة من التراث العربي الإسلامي ومن التدين المغربي، هناك وريث التدين المغربي أو المغاربي بزواياه وطرقه الصوفية مثل العدل والإحسان التي هي وريثة للتدين المغربي أو التوجهات العربية التي أخذت عن السلفية من السعودية أو الإخوان المسلمين ونسختهم عندنا هي حزب العدالة والتنمية. هذه التوجهات الإسلامية المختلفة هي أيضا شاعرة بأن المغرب ليس في انسجام تام مع عصره، لكنها لم تحدد طبيعة رد الفعل على هذا العصر:هل نندمج فيه أم لا نندمج؟ هل نتهم من يندمج فيه بالتغريب أم نقول بأنه منفتح إلى آخره؟ هذه النقاشات موجودة وحتى نقاش الحداثة دخلها.أحد عناصر التمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات المحافظة هو الحقول، نحن نستعمل في العلوم الاجتماعية الحقل السياسي، الحقل الاجتماعي، الحقل الديني، الحقل العلمي. كل حقل فيه رهان وفيه فاعلون يتصارعون على ذلك الرهان، وكل حقل فيه بنية تهيكل الحقل، وفي كل حقل هناك تموقعات الفاعلين إما في مركز الحقل أو هامشه، وكل حقل عنده ثقافة يحاول أن تكون هي السائدة في الحقل ولديه استراتيجية أيضا. وما يميز المجتمعات المحافظة عن المجتمعات الحداثية هو أن في المجتمعات المحافظة هناك تداخل عضوي بين الحقول، وهناك حقل مهيمن، وكل ما يجري في الحقول الأخرى يشرح في آخر المطاف بالحقل المهيمن، بينما في المجتمعات الحداثية هناك نوع من فك الارتباط النسبي بين الحقول، الشيء الذي يعطي كل حقل منطقه، وهو الأساس في الحقل العلمي، حيث السلطة للأكاديمي وللثقافة الأكاديمية، وفي الحقل الاقتصادي المعطيات الاقتصادية والمبادئ الاقتصادية هي التي تحسم، وهكذا دواليك، هناك فصل بين كل منطق ومنطق، هناك نوع من الارتباط هو الذي يعطي نوع من الارتباط العام بين البنى المشتركة ولكن هناك أيضا فرق نسبي في هذا الإطار.بالنسبة للمغرب تداخل الحقول مازال موجودا بشكل كبير، وفيما يتعلق بالحركات الإسلامية تبرهن عليه في التردد الكبير إن لم يكن الرفض أحيانا لفصل الحقل الديني عن الحقل السياسي، ومازلنا نقول إن الإسلام دين ودنيا، ولذك حتى في حركة 20 قبراير حين كنا نناقش الدولة المدنية هل فيها نوع من الفصل؟ خلال أشهر فبراير، مارس أبريل كانت جماعة العدل والإحسان تقول نعم هو فصل موجود، ونحن نقوم به ولدينا الدائرة الدعوية والدائرة السياسية، ابتداء من ماي 2011 بدأت تقول إن الدولة المدنية هي الدولة الإسلامية، إذن الفصل غير موجود، وعند البيجيدي نفس الأمر. إذن التردد هو في هذا المستوى، في أن نفصل بين الحقل الديني وبين الحقل السياسي وهو ما يسمى في تاريخ الإنسانية بالأنسنة، ومعناها فلسفيا الانتقال من مركزية الله إلى مركزية الإنسان، أي أن الإنسان مسؤول ويتحمل مسؤوليته، وذلك لا يعني إلغاء الدين، لا يعني الزندقة، لا يعني الإلحاد، فقط فصل الدوائر، ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ما للدين للدين وما للسياسة للسياسة. هذا المستوى فيه تردد من كل التوجهات الإسلامية الموجود في المغرب.بعد التوجهات الثلاثة السابقة، هناك التوجهات الأمازيغية، وبالرغم مما يقوله بعض المثقفين، وعلى رأسهم المثقف الأكثر حركية السي أحمد عصيد بأن توجه الأمازيغ هو توجه المواطنة. في الواقع العيني منطق الحركة الأمازيغية الموجودة في الشارع والكليات والتظاهرات هو التعارض العرقي العربي الأمازيغي، ومنهم من يقول بشكل مباشر إن العرب يستعمروننا وهذه بلادنا وأن اللغة الأمازيغية لا يجب أن تكون فقط لغة وطنية بل لغة رسمية… هذه التوجهات ماتزال تعيش تردد الخروج من التعارض أمازيغي/ عربي في مستوى عرقي إلى المواطنة، ولم ننتقل إلى المواطنة التي تعني أن المجتمع مكون من مجموعة من الأفراد كلهم متساوون تجمعهم رابطة القانون وهي الأساس، وهناك إيمان بالاختلاف وبالتباري الحر، هذا الانتقال لم يتم بعد عند التوجهات الأمازيغية لأنه لو تم لكان الحديث ليس حول العربية والأمازيغية، بل حول العربية والدارجة، وحول الأمازيغية والدارجة، والسؤال هو هل الدارجة هي المحصلة التاريخية لكل التفاعلات الموجودة أكانت إفريقية من وراء الصحراء أو إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو أمازيغية إلخ. وإذا كانت الدارجة محصلة، هل تطويرها إلى لغة فيه إفادة للمجتمع ككل، أم أن الفاتورة ثقيلة، وهذا النقاش ممكن نظريا، ولكن السؤال هو ما هي كلفته؟ بما أننا في العولمة ونريد أن ندخل إلى العولمة من بابها الكبير، بأي لغة وعتاد لغوي سوف ندخل؟ لأن اللغة ليست فقط خطاطات وبعض الحروف إلى آخره. اللغة مخيال، وهي إبداع، هي تصور للعالم… إذن التوجهات الأمازيغية ماتزال تعيش هذا التردد في المرور من المقابلة العرقية إلى المواطنة.[gallery link="file" size="square" ids="599744"] * كي نعود إلى سؤالنا الأول عن عبد الرحمان اليوسفي ومدى تجسيده لهذه الترددات؟** (يقاطعني) إذن الكلمات الأربع التي هي السقوف الموجودة، هي الشرعية الشعبية الديمقراطية، الدمقرطة، الأنسنة، المواطنة. هذه عناوين السقوف التي لم نخترقها وهي التي تركز التردد. في سؤالك عن عبد الرحمان اليوسفي طبعا هو يركز هذه الترددات بامتياز، لأنه أولا مثقف، يعني خاض الدراسة الجامعية في وقت كانت فيه هذه الدراسات قليلة وفي معاهد فرنسية متقدمة، خصوصا وأنه عاش في الخارج لمدة وكان وجها من وجوه حقوق الإنسان عالميا وعربيا، فإذن استبطن ثقافة حقوق الإنسان، ولكن هذه الثقافة وضعته في مواجهة مباشرة داخل عشيرته الصغيرة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في موضوع الدمقرطة، وكان هناك مشكل، وضعته مقابل التعاقد مع الملكية، عندما ترفض الملكية التعاقد ولا تريد التعاقد كان اليوسفي من الناس الذين ينادون بإسقاط الملكية ودخل في هذا الإطار لدرجة أن الراحل الحسن الثاني قدمه لابنه وولي عهده على أنه أكبر مهرب للسلاح. وعندما طرح النقاش من أجل عودة المهدي بنبركة سنة 1965 (كان الحسن الثاني قد قال للمهدي أنت أستاذ الرياضيات وهناك معادلة لم أجد لها حلا بعد وأريد أن تساعدني في ذلك)، وأثناء الإعداد لحل هذه الأمور وقع اعتراض من طرف أوفقير والمخزن العميق إلى آخره والنتيجة الدرامية معروفة وهي اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، كان اليوسفي هو منسق لجنة محامي بنبركة في باريس وهنا عاش لحظة أن التعاقد مع الملكية فيه إشكال وينبغي حله، هل بالعنف والانقلاب أم غيرهما من الأمور؟ وفي سنة 1975 عندما وقع الانفتاح على بوعبيد لم يحضر اليوسفي المؤتمر، بل بعث بشريط مسجل عبر فيه عن مساندته للمؤتمر… إذن فقد كان مترددا، وعند نهاية كلمته ردد الحاضرون «اليوسفي ها هو والبصري فين هو»، وبطبيعة الحال لما دخل المغرب في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات عاش المشاكل التي ترتبت عن هذه الأمور بما فيها خروجه من الحقل السياسي في وقت ما وذهابه إلى كان لأنه كان قد قال إن الانتخابات قد زورت، ثم رجوعه فيما بعد إلخ…وطبعا الدراما الكبيرة المعروفة، وسبق لي أن كتبت حولها مقالا عندكم في الصفحة الأخيرة من الأحداث المغربية، هي أن الاتحاد سيحتج على عدم احترام المنهجية الديمقراطية، لكنه سيساهم في حكومة إدريس جطو، وهنا سيستقيل اليوسفي ويذهب إلى بروكسيل حيث سيلقي محاضرته الشهيرة. فالسي عبد الرحمان يجسد كل الترددات التي أشرنا إليها، وكي لا أفهم أني أعطي دروسا لمناضل من هذا الحجم، أشير إلى أن هذه الأمور ليست بسيطة، لأن البنية المغربية بنية معقدة، والتعامل مع هذه التعقيدات المختلفة بحدين إما قبولها بدون نقاش أو العمل على إزالتها بالعنف بدون نقاش أيضا ليس هو الحل.* هل يمكن أن نسميها اختيارات ذاتية أم بنيات موضوعية؟** ما أحاول أن أضيفه في أطروحتي هو أن زمن تغير العقلية المغربية هو زمن بطيء ولم يحدث فيه الانتقال بعد، لذلك تحميل المسؤولية عن هذا الجانب للدولة فقط غير صحيح، تحميل المسؤولية لجزء من المجتمع الذي يتهم بأنه متطرف غير صحيح أيضا، البنية كلها في تصورها لكيفية تفاعلها مع العصر حبلى بهذه الترددات، لهذا أميل كثيرا الآن إلى أن الفعل المفيد والأساسي هو الفعل الثقافي.* هل يمكن القول أن الترددات في تحقيق هذا الانتقال، التي هي كما أشرت إلى ذلك مشتركة بين جميع التوجهات العميقة الموجودة في المجتمع، هو الذي جعلنا ننتقل من نخبة مطالبة بالإصلاح إلى نخبة فشلت في الإصلاح، وبالتالي في المشهد العام انحسار دور الفاعلين السياسيين بكل توجهاتهم، مقابل بروز قوي للحركات الاجتماعية كبديل؟  ** سأعطيك معلومة لا نتحدث عنها كثيرا لأنها تزعج، تتذكر أن المقولة التي ظلت تستعمل بشكل كبير هي الانتقال الديمقراطي، وكنت أقول ذاك الوقت، ماذا تعني «الديمقراطي»؟ هل هو نعت، إن كان كذلك وهذا هو الذي أميل إليه، بمعنى طريقة تعني انتقالا سلميا حضاريا وليس عبر الانقلاب أو الانتفاض الشعبي، يعني أنه انتقال سلس، وهذا جيد، لكن انتقال من ماذا إلى ماذا؟ الجواب عن هذا السؤال هو المسكوت عنه، فنحن ننتقل بشكل حضاري هادئ متوافق عليه، لكن من ماذا إلى ماذا؟ فنحن لا نصف البنية القائمة ولا نصف البنية التي نريد الانتقال إليها، لذلك قلت إن البنية القائمة هي المحافظة الموجودة في كل المستويات، وهناك بنية الحداثة لكننا لا نتحدث عنها لأن الانتقال إلى الحداثة يزعج حتى داخل الذين يتحدثون كثيرا عن الحداثة والديمقراطية والشفافية والعقلنة… وغيرها من الأمور.الانتقال إلى الحداثة فيه مشكل. والمشكل يوجد في الأسرة وتناقضات الحديث عن المساواة وحقوق الطفل إلى غير ذلك، ليس في الخطاب بل في الممارسة، والمشكل موجود أيضا في الحزب وقد تحدثنا عن الشرعية التاريخية، وفي القسم أيضا لا يقبل الأستاذ أن يناقشه التلميذ، إذن هذا الانتقال الذي نتحدث عنه من المحافظة إلى الحداثة غير موضح، وفي بعض القضايا هو صعب والآن ما زال فيها نقاش. لماذا فشلنا في إصلاح التعليم من الأولي إلى الجامعي؟ فشلنا فيه لأنه في البنية المحافظة فيما يتعلق بالتكوين والتلقين وغيرهما من الأمور، مركزية الهوية هي أسبق على مركزية المعرفة، في حين أنه في فضاء الحداثة هناك مركزية العلم أسبق من مركزية الهوية، المعرفة هي الأساس والهوية يعاد صياغتها بأدوات المعرفة في كل مرة.لما نقوم بتحليل البرامج المدرسية، نجد نوعين من منظومة القيم: منظومة قيم محافظة ومبسطة عبر مجموعة من المواد كالتربية الإسلامية، التربية الوطنية، التاريخ… ولدينا منظومة قيم حداثية مرتبطة بالمواد العلمية وغيرها، هذا التضارب بين القيم موجود، ولم يتم إصلاحه أبدا، ولحد الآن لما نشكل لجنة لإصلاح التعليم نضع فيها علماء الشريعة، ومؤخرا عشنا الصراع بين أساتذة التربية الإسلامية وأساتذة الفلسفة لأن أساتذة التربية الإسلامية كفروا الفلسفة واعتبروها علما من علوم الشيطان. إذن لدينا هذا التردد في الانتقال من مركزية الهوية إلى مركزية المعرفة.وهو تردد مستبطن.* مجمل حالات الفشل التي أشرت إليها هل هي التي تفسر نوعا من نفور المجتمع من الحقل السياسي ولجوئه إلى البحث عن الأجوبة داخل الحركات الاجتماعية؟** في مختلف البارديغمات ليبرالية كانت أو اشتراكية، يبدأ الفكر حيا ثم يتطور، عد المغاربة يقع العكس، يصل مرحلة معينة ثم ينضب أو أن صبيبه يضعف، ثم نعود إلى العمل المباشر الذي يقوم على حل الإشكالات المباشرة المطروحة وليس حل الإشكال المطروح وما سيأتي بعده. من هنا يوجد عطب، لهذا أقول إن المدرسة جوهرية، والدولة يجب أن تعطي أهمية لأهل الفكر وأهل دراسة المجتمع ونحن لدينا نقص كبير في الأنتربولوجيين والسوسيولوجيين ومراكز البحث في ماذا يعتمل داخل المجتمع كي نفهم هذا الغضب المتراكم الذي ينفجر بين الفينة والأخرى ونسميه حراكات، والذي سينضاف إلى غضب آخر يأتي من صعوبة لحظة الوباء وما أنتجته من ضحايا على مستوى العيش والحياة الاجتماعية. هو غضب نشاهده، نتابعه، يمكن أن نكتب عنه، لكن فهم ميكانيزماته هو عمل العلوم الاجتماعية، والعلوم الاجتماعية المغربية منبوذة وغير مساعدة على القيام بذلك، وهذا من التحولات الاستراتيجية التي يمكن القيام بها، والتي ستعطي للسياسي إمكانية فهم ماذا يعتمل في عمق المجتمع، وكيف يمكن مواكبته بشكل إيجابي، سواء كان في الدولة أو خارجها، هذا دور جوهري للبحث العلمي في العلوم الاجتماعية يجب التأسيس له ومساندته، وفي نفس الوقت في تكوين المدرسة يجب أن نخلق المعرفة والتعامل معها وأن نخلق متعلما لا يحفظ ويستظهر، بل نعطيه أدوات كيف يكتشف المعلومة وكيف يناقشها وكيف يركب ويفكك، فتكوين الطفل يجب أن يعطيه إمكانية التكيف مع التطور والأدوات الأساسية التي تؤهله لمواجهة التغيرات التي تقع في سوق الشغل، هذا توجه فكري واختيار حضاري، هو الذي مازال فيه تردد، وأتمنى أن تحسم فيه لجنة النموذج التنموي التي يرأسها شكيب بنموسى. هذه اللجنة لديها فرصة، لأن أزمة كورونا فتحت الباب أمام إمكانية الإبداع والابتكار.[gallery link="file" size="square" ids="599747"]* بالإضافة إلى النموذج الجديد للتنمية الذي يجري البحث عنه، هل يمكن أن نقول إن أزمة كورونا بدأت تعود بنا إلى استعادة الدولة لأدوارها الكلاسيكية، حيث لاحظنا بداية الحديث عن العودة إلى الدولة الاجتماعية، وعن استعادة الثقة في الدولة… هل نستطيع القول أن مرحلة الوباء هي فرصة لميلاد دولة جديدة تقطع مع نموذج الدولة الذي اشتغلت على دراسته خلال المائة سنة الماضية؟** طبعا هذه فرصة، من آليات الشرح التي اعتمدتها في أطروحة «الوطنيون المغاربة خلال القرن العشرين» هو أنني أخذت ست ظرفيات كانت فيها إمكانية قطع التردد والانتقال، لكنها تحولت إلى أقواس، حيث يفتح القوس نظرا لوجود إمكانية ثم يتم إغلاقه، خلال نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية الألفية الثالثة وأساسا إلى حدود 2015 هناك ست ظرفيات من هذا النوع، وكل ظرفية ضيعناها، النموذج الشارح في هذا الإطار هو وجود عنصرين للشرح، الأول هو النضوب الموجود في الفكر، والآلية الثانية هي عدم التطابق ما بين الحركات الاجتماعية وحركات الفكر، إذ في الوقت الذي يبتكر الفكر ويخلق أمورا جديدة، نجد أن المجتمع فيه سكون وليس فيه رد، وتصبح النخبة التي تفكر شبه معزولة، وفي الوقت الذي تصاب هي بالعياء يكون المجتمع قد وصلته حركات التغيير العميقة المفروضة نظرا للعلاقة مع العالم، يكثر المتضررون ثم يجتمعوا ليفجروا غضبهم من دون وجود رأس، فمرة لدينا رأس بدون جسم، ومرة جسم بدون رأس، هذا الميكانيزم تكرر ست مرات في المرحلة التي أشرت إليها.* (أقاطعه) هل هذا ما تقصده بتصريح سابق قلت فيه إنه في التسعينيات كانت لدينا نخبة بدون حركة اجتماعية، والآن لدينا حركة اجتماعية بدون نخبة؟   ** طبعا، وقبل التسعينيات، منذ منتصف الثمانينيات وأساسا منذ 1987 بدأ الحديث عن الإصلاح والحسن الثاني يقول أعطوني سنتين للتفكير، الذي وقع هو أن النقابات كانت تجتمع والشبيبات تجتمع في إطار الشباب مقابل الشيوخ، والمثقفون بدؤوا ينظرون لقضية التوافق الوطني، وقضية الإصلاح الاجتماعي والاقتصاد المنتج غير اقتصاد الريع، حتى البنية الماركسية التي كانت موجودة بشكل منطوق في بعض الحركات، وبشكل ضمني في حركات أخرى بما فيها حزب الاستقلال، هذه المجموعات كلها بدأت تناقش بأن التناقض بين الرأسمال والعمل الذي هو أساس الماركسية غير فاعل في المغرب، وبأن التناقض هو بين المنتجين والمفسدين، وبأن هذا هو التناقض الرئيسي، وظهرت فكرة أن رجل الأعمال الذي يخلق مصنعا ويوفر فرص شغل وتعيش منه 3000 أسرة هو منتج للثروة… هذا الانتقال حدث إلى حدود سنة 1995 وشارك فيه الشباب والحركة النسائية من خلال مليون توقيع لتغيير المدونة… هذه لحظة للتغيير موجودة وفيها العمال إلى الفلاحين والنساء والشباب والمفكرين والأحزاب السياسية، وهي لحظة تجاوزوا فيه التوجه التحرري الوطني، وتجاوزوا الخلافات الأيديولوجية ليشكلوا الكتلة الديمقراطية كإنتاج كبير، لكنه سينكسر في 1995 لأنه وقع تردد كبير للبنية الملكية، وذاك التردد كسر هذه التراكمات، وحتى التعبير عنه لم يقع في النقاش، ولو ناقشنا لكان ذلك مفيدا، ما وقع هو إصدار بيان ملكي سنة 1995 يتحدث عن أن الحركة الوطنية تدخلت في المقدسات وطالبت برحيل إدريس البصري، بينما الواقع هو أن الكتلة كانت تحضر لبنية كانت تسمى في ذاك الوقت التناوب التوافقي، صحيح أن الكتلة لا تمثل الأغلبية لكنها تتوافق مع الملك، والحسن الثاني كان مستعدا وقال إنه سيقول للأغلبية أن تقوم بفترة نقاهة، في تلك الفترة أعدت الكتلة برنامجها الاقتصادي والاجتماعي وفيه 160 إجراء/ قرارا صادما مباشرا من أجل إحداث الصدمة الاجتماعية التي من شأنها دفع الناس إلى الثقة في السياسة، ومن ذلك مثلا إلغاء كل سيارات الوظيفة العمومية ومنح الموظفين تعويضا عن البنزين مقابل استعمال سياراتهم، وتخفيض أجور الموظفين الكبار وتعويضات البرلمانيين بمقدار الثلث إلى غير ذلك. وبعد ذلك هناك تصورات بشأن هيكلة الحكومة في حدود ستة عشر وزارة كبرى وهناك برنامج للاقتصاد المنتج يجعل الدولة أساسية فيه.لم يكن هناك أي نقاش حول إدريس البصري، لأنه كان هناك اتفاق على أنه لن يكون في الحكومة وسيدخل القصر كمستشار أمني للملك، وفي المقابل كانت تروج أسماء في منصب وزير الداخلية منها الجنرال القادري الذي كان حوله اتفاق، بمعنى أنه لم يكن هناك أي إشكال إلى أن صدر ذلك البيان.ما يقال وأنا ليس لدي التدقيق ولكن عندي ما يرجح، أن الحسن الثاني استقبل ريموند بار (كان وزيرا أول في حكومة جيسكار ديستان وقدمه كأول عالم اقتصاد فرنسي وهو صديق للحسن الثاني) وأعطاه البرنامج الذي أعدته الكتلة وقال له بار إن الدولة مركزية في هذا البرنامج، بينما أنت تريد أن تدخل العولمة، التي تقوم على أساس تقليص دور الدولة، فهذا البرنامج غير متوافق مع ما تفكر فيه، وهذه الاستشارة هي التي أوقفت مشروع التناوب لسنتي 94 و95.* في هذه الفترة التي نتحدث عنها كانت مقولة السكتة القلبية تعبر عن لحظة استثنائية فيها أن الدولة والمجتمع يتفقان معا ولأول مرة على أن مصلحتهما معا هي في الإصلاح، هل نقول الآن إن لحظة التفكير في نموذج تنموي جديد هي لحظة أو فرصة ثانية بعد لحظة السكتة القلبية؟** طبعا. الآلية الشارحة التي بلورتها في الكتاب صالحة لهذا الأمر، لذلك لما بدأت الجائحة أو حتى قبل أن تبدأ، يعني منذ سنتين ونصف كنا نحن مجموعة من الذين يهمهم هم الوطن دون أن نكون مجموعة حزبية، ومنهم مقربون جدا من المخزن لكن لديهم نظرة في تحليل المجتمع وبنياته، والغيرة على التطورات لا في الاقتصاد ولا في الصحراء والحراكات الاجتماعية الموجودة، ولا في اتجاه مراقبة رد فعل الدولة في مستوياتها العليا، أنجزنا في ذلك الوقت دراسة انطلاقا من الوثائق الرسمية للدولة، وهي من النوعية الجيدة لكن ليس الجميع مطلعا عليها، مثلا المعهد الملكي للدرسات الاستراتيجية، الذي هو العقل المفكر للديوان الملكي، هذا المعهد ظل يقول منذ سنة 2007 إن النموذج التنموي المغربي انتهى دوره أو أنه دخل إلى الظل، هذا موقف العقل المفكر للدولة. ونفس المعهد أنجز دراسة حول القيم في المغرب وأساسا العشر القيم المعروفة، والتي اندثرت وبقيت قيمتان فقط هما الأسرة والدين. ولما تأخذ الدراسات التي تنجزها المندوبية السامية للتخطيط حول الفقر والتنمية والطبقات الاجتماعية إلى غيره يظهر لك كيف أن مساحة الفقر تتوسع وأن الطبقات الوسطى تتقلص وهذه خطوة تسمح لك بأن تقول إن الغضب ها هو أساسه الموضوعي، وأن بعض مؤشرات الاقتصاد مثل ميزانية الدولة والعملة والميزان التجاري وميزان الأداءات إلى آخره لا تصمد أمام العمق الذي هو مستويات العيش وهو مستوى إنتاج الثروة، ولما تأخذ المجلس الاقتصادي والاجتماعي وآخر تقرير وقعه نزار بركة تجد أنه بين الدولة والمجتمع هناك فقدان كبير للثقة، وعندما تنعدم الثقة في المجتمع يصبح كل ما تقوم به الدولة غير مقنع، ولما تأخذ دراسات بنك المغرب أو تقارير الحكامة التي صدرها المجلس الأعلى للحسابات تكتشف الهول، وأعطيك رقما واحدا فقط، لما تأخذ في ميزانية الدولة الشطر الخاص بالاستثمار وهو المنتج للثروة سنجد أنه من 2002 إلى 2010 وهذا استنتاج مؤسسة من مؤسسات الدولة، كان هناك تقريبا 60 أو 70 مليار درهم للاستثمار ووقعه على سوق الشغل هو في حدود إنتاج حوالي 165 ألف منصب شغل، بينما نسبة الوافدين على سوق الشغل تبقى في حدود 200 إلى 250 ألفا. لكن ومن 2010 إلى 2018 ارتفعت ميزانية الاستثمار ثلاث مرات بينما انخفضت إمكانيات التشغيل من 165 ألف إلى ستين أو سبعين ألفا بينما الوافدون إلى سوق الشغل وصلوا إلى 300 أو 320 ألفا… هذا هو الأساس الذي عليه تساءل الملك أين ذهبت ثروة المغرب. فميزانية الاستثمار لم يكن لها وقع على سوق الشغل وليست هناك أسرة لا يوجد داخلها عاطل عن العمل.في سياق هذه الوضعية جاء خطاب أين الثروة وخطاب النموذج التنموي الجديد وخطاب بناء تعاقد اجتماعي جديد. هذه لغة الخطاب الملكي ولم تكن هناك خطابات سابقة من هذا النوع. لما تأخذ كل هذه المعطيات تنتهي إلى أن هناك شعورا بأن ما هو موجود غير مريح كيفما كان التعبير عنه، هل السياسات السابقة فاشلة أم أنها كانت ناجحة ولم تعد صالحة.. فما يهمني هو أن الوضع الحالي غير مريح ولا بد من تغييره، وفي تغييره كما يقول رئيس الدولة هناك ضرورة حوار صادق مغربي مغربي، وأريد أن يصدمني الناس ويقولوا لي…* (أقاطعه) طلب من اللجنة أن تقول الحقيقة مهما كانت قاسية.إذن، هناك هذا الوعي، لكن في عمق المجتمع هناك غياب الثقة بين الدولة والمجتمع، وهي معضلة كبيرة، لأنه لو كان لدينا نوع من الضمير النقدي الوطني المعترف به بعلمائه ومفكريه وباحثيه ورجال الدين… كان يجب أن يكون المغرب في وضعية أخرى.في هذه الظروف جاءت أزمة كورونا التي أدخلت عدوا غير مرئي وفتاك، هل درجة فتكه مبالغ فيها أم لا؟ ليس هذا موضوعنا، لكن الأكيد أنه خلق نوعا من الهلع، ونظرا لمحدودية قدراتنا لا في النظام الصحي ولا في النظام اليومي للتصرف كبر الهلع، وهنا كان لا بد من الحد منه ولعبت الدولة دورها جيدا، أي أن نحمي المواطن وفي نفس الوقت ألا نؤدي إلى إغراق البنية الصحية، فوقع الاعتكاف أو الحجر الصحي. وهذا الحجر في إطار بنية الخوف الجماعي الموجود، وبنية العدو غير المرئي خلق الشروط الموضوعية لإعادة بناء الثقة وهو ما يعطي فرصة. هل سنحسن استغلال هذه الفرصة ونبني من جديد بالخلاصات الضرورية ومن بينها أن العولمة ضربت جميع الإطارات التضامنية، ضربت الدولة الوطنية، غيرت مفهوم السيادة، ضربت الأحزاب والنقابات والجمعيات بما فيها المهنية لأن العولمة مبنية على سيادة الرأسمال المالي وعدم خضوعه لأي حدود؟هذه العولمة مع أزمة كورونا ستتغير، لن تنمحي، فقط ستتغير وستعطي للجهات الكبيرة في العالم دورا أكبر، بمعنى أنها ستسير نحو جهوية معولمة، سيقع هذا التطور وفي إطارها لابد أن الدول الوطنية سيعاد لها الاعتبار بشكل محدود حسب كل دولة، وداخل الدولة سيعاد الاعتبار للقطاع العام وعلى رأسه القطاعات الاجتماعية والبحث العلمي.هذه هي التطورات التي ستقع. هل سنعتبرها فرصة لنا نحن كمغاربة كي ننتج مغربا جديدا بحوار صريح، أم هل ستعتبر الدولة بأن هذه المرحلة كسابقاتها وستراها قوسا قاسيا استطاعت فيه أن تلجم كل التجاوزات التي يمكن أن تقع لها، وبالتالي ستغلق القوس نظرا لاعتقادها بأن أي غضب بإمكانها احتواؤه، هذان احتمالان إما إعادة إنتاج مغرب جديد أو إغلاق القوس. أنا أتمنى أن يتحقق الاحتمال الأول، في هذا الاحتمال أراهن على لجنة النموذج التنموي الجديد، ولكن شريطة أن تقود حوارا صريحا مع الجميع، أي أن تستمع إلى الشباب في كل مكان، في ابن جرير، في وجدة، أن تستمع إلى المهربين في الناظور، إلى رجال الأعمال في الدار البيضاء، فلكي أقوم بمشاورات وطنية منتجة، على لجنة بنموسى أن تجتهد وتستفيد من خبرات الكفاءات الفردية التي تتوفر عليها في مجالات مختلفة، بما في ذلك الذكاء الصناعي، فلكي يتحول الذكاء الفردي الذي تزخر به اللجنة من خلال تشكيلتها المتنوعة إلى ذكاء جماعي، يجب على اللجنة أن تنسق عملها بشكل جيد ينتج في النهاية أحسن ورقة ممكنة ومدققة من حيث التصور كمشروع يطرح لنقاش فعلي وحقيقي يمتد على الأقل إلى سنة، في مختلف أماكن النقاش، وأن يكون النقاش هادئا وبعيدا عن الاستعجال وضغط الزمن، لأن في مثل هذه الأمور سيضيع الكثير من الوقت، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هناك مسألة مهمة لابد من التوقف عندها، وهي أن المعارضين للدولة، أو المستقلين، أقصد بذلك الكفاءات المستقلة، هي الأخرى، يتوجب عليها أن تعد مشروع نموذج تنموي خاص بها، وعندما يتم الشروع في النقاش، يكون هناك نموذج مقابل نموذج، فالمعرفة الصحيحة لا تلغي الحوار، فهذه العملية كان من المفروض أن تكون أثناء وضع الدستور، فلا يمكن أن يقتصر الدور في قول «نعم» أو «لا».* أقاطعه، ولكن في الدستور كان هناك نوع من الاستشارة الموسعة؟** نعم، ولكن حينها اقترحنا على لجنة وضع الدستور أن تخرج المشروع للنقاش، وأن يمتد النقاش حوله لشهور يفسح فيها المجال لجميع المتدخلين للإدلاء بمقترحاتهم وتصوراتهم في ما يخص المشروع بنفس الشكل الذي تشتغل به لجنة النموذج التنموي الجديد.* تحدثت مسبقا عن انهيار عنصر الثقة، الآن ربما هناك تقدير آخر يتمثل في انهيار مؤسسات الوساطة، أو كما تسميها بالنخبة السياسية أو الانتلجنسيا، أي أنها لم تعد مؤهلة للمشاركة في عمليات التفكير في مثل هذه العمليات الاستراتيجية؟هذه هي الميكانيزمات السائدة. أنت تضعف الآخر، لا تعطيه إمكانيات التعبير عن نفسه بشفافية، تحرمه من حقه في الولوج إلى الإعلام الرسمي، تأتي بمحللين لا يتوفرون على قدرات تحليلية مهمة، أو يرددون ما يريد النظام أن يسمعه، أي أنك لا تعمل على خلق شروط النقاش، وفي نهاية المطاف تبرر غياب النخبة عن المشهد لضعفها، وأن العناصر الجيدة ضمنها صامتة تفضل السكوت.* لكن المجال الرسمي ليس هو الفضاء العمومي الوحيد لنقاش قضايا من هذا الحجم، هذا من جهة ومن جهة أخرى، الأحزاب السياسية حاضرة في الإعلام العمومي، المؤاخذة الوحيد، هي أنه داخل الأحزاب هناك طاقات فردية منتجة، لكن الحزب كتصور جماعي ربما…؟** صعب عندما نتحدث عن السياسي أو السياسوي أي أننا نحصر أنفسنا في العلاقة بين الدولة والأحزاب السياسية، أنا أريد أن أخرج من هذه الزاوية الضيقة إلى فضاء أوسع، هو المجتمع. المجتمع بكل حساسياته أصابه نوع من العياء، ومن هنا فإعادة إنتاج البنيات الموجودة يتم بشكل متخلف، سواء تعلق الأمر ببنية الأحزاب السياسية، أو البنية الجمعوية، أو بنية الدولة، فعندما لا تتقدم تنتج التخلف.[gallery link="file" size="square" ids="599748"]* هل شكل كوفيد لحظة للتضامن بين المجتمع والدولة؟** كانت هناك ردود فعل إيجابية، يمكن أن ألخصها في اثنين، رد الفعل الأول مجتمعي مرتبط بالحياة، أي أنه كانت هناك أشكال متعددة للتضامن، لأن هناك من انزلقت به الأمور لدرجة التسول، والبعض الآخر منعته فقط عزة النفس،  وبالتالي ظهرت مشاهد تضامن في العديد من المناطق سواء في القرى أو المدن، ولو أن قاعدة هذا التضامن إحسانية، تقول على أساس الثقافة الدينية المستبطنة، وبالتالي فالمنظومة التنموية الجديدة يجب أن تتحول إلى منظومة مدنية، أي منظومة غير قائمة على الإحسان والصدقات، وإنما على  تضامن مجتمعي موجود بكل آلياته، من خلال تطوير المنظومة الصحية، تطوير منظومة الشغل، كذلك في ما يتعلق بمساعدة الشباب إلى غير ذلك من الأمور التي يجب أن ترى النور.أما رد الفعل الثاني، فهو النقاش عبر المنصات الإلكترونية، إذ لم يسبق للندوات أن عرفت نشاطا كبيرا، من خلال المنصات، إلا في هذه الآونة، حيث نتج عن مقترحات عبر النقاش العميق الذي دار، يكفي فقط جمعها وانتقاء المقترحات النيرة منها، فخلال مرحلة الحجر كان هناك نوع من الانتفاض. انتقاض من حيث التضامن، وانتفاض آخر على الصمت، حيث خرج الفلاسفة والمؤرخون ورجال الاقتصاد عبر المنصات الإلكترونية، حيث كانت نقاشات مفيدة انخرطت فيها كفاءات مهمة، وبالتالي يجب الإنصات إليها.* هل ننظر إلى ما بعد «كوفيد» بتشاؤم المؤرخ الذي يؤمن بالبنيات والعقليات التي تشكلت على مدار مائة سنة، أم أنه سيؤمن بتفاعل الفاعل السياسي الذي يؤمن بتفكيك هذه البنيات مهما ترسبت تاريخيا وتأسيس انطلاقة جديدة؟** أتمنى أن أكون خاطئا، لكن الملامح التي تبدو لي كمؤرخ أن قوس كورونا سيغلق، لكن الخوف أن تعود حليمة إلى عادتها القديمة، لأنه هناك نوعا من الإغراء أنه من الممكن حكم المغاربة باليد القوية، هذه مؤشرات ألتقطها كمواطن وباحث يشتغل على الشأن العام. من طبعي أن متفائل، ومن هنا أقول إن الوضعية الحالية تفوق وضعية الأزمة القلبية، طبعا الأمر يتعلق بالمجتمع المغربي والمجتمعات المغاربية، فما يجري في الجزائر مشابه لما يجري في المغرب ويحمل نفس المخاطر، وما يقع في ليبيا لا يخفى على أحد، بقيت التجربة التونسية، وإن كانت مفيدة فهي الأخرى مهددة بالسياق الذي تحدث عنه، وبالتالي أقول الإنسان دائما يمكنه أن ينتقض وأن يتوقع الجيد، ففي هذه اللحظة ورغم أنني لست مسؤولا سياسيا، إنما فقط مواطنا مؤرخا يفكر، أرى أنه نظرا لمركزية الملكية في البنيات المغربية المختلفة أن يكون توجها ملكيا لاستنهاض الأمور، خصوصا في ما يتعلق بالنموذج التنموي، لا أخفي عنك فكل حديث عن استبدال هذا بذاك وهذه الحكومة بتلك أو انتظار الانتخابات المقبلة أو غير ذلك فكل هذه الأمور بالنسبة لي تأتي في مرتبة ثانية بعد الصدمة الإيجابية للانتفاض على هذا الواقع الذي نتواجد فيه، الآن عالم جديد يتهيكل أمامنا والقوى الكبرى تتصارع، وبالتالي هذا العالم الذي يتشكل أمامنا يبرز بألم شبيه بولادة عسيرة حاملة لألم كثير، إذا لم ننتقض بشكل إيجابي وجماعي لنكون غدا شركاء في هذا العالم الذي يولد أمامنا سنكون عبيدا في العالم الجديد.