حطمنا الحدود الوهمية، واجتزنا كل المسافات والعراقيل، وأصبح النقاش دائرا اليوم عند ممتهني الصحافة في البلد، بين من هو صحافي جدا، ومن هو صحافي "شوية وصافي"، وبين من هو صحافي "نص ــ نص"، وبين من هو في منزلة الصحافي، وفي حكمه، لكنه لم يبلغ المرتبة بعد…

وبين هذا التوصيف وذاك، تبقى قلة قليلة، تحاول الترفع عن كل ما جرى ويجري، وسيجري، بإقفال آذانها في وجه كل الضجيج الجاهل، وإغماض عينها لئلا ترى المزايدات المتوالية، والاكتفاء بأهم شيء: العمل، ومواصلة العمل. 

العمل الصحفي نقصد، وليس أي عمل آخر من أي طبيعة أخرى، لأن الخلط بين الأجناس، وهو خطأ جسيم في المهنة، أنتج لنا اليوم في المشهد خلطا من نوع آخر، خير تجسيد له صحافيون وصحافيات لا يقبلون بالبقاء فقط في طور الصحافة، ويريدون الانتقال إلى كل الأطوار الأخرى، ولعب كل الأدوار المتوفرة فوق هذا الركح، بل وحتى خارج الخشبة، أي في الكواليس. 

لذلك صار لدينا الصحافي الراغب في أن يكون مستشارا للجميع. 

وصار لنا الصحافي الذي يقول إنه المخاطب الوحيد لكل المنظمات الدولية المهتمة بحال البلد. 

وصار لنا صحافيون، مناضلون، وجمعويون، وسياسيون، وحقوقيون، ومعارضون، ومؤيدون، وآخرون في "البين ــ بين" حائرون، يتساءلون عن المهنة الفعلية من وماذا تكون. 

نكاد نقول إننا أصبحنا نتوفر في المشهد على كل أنواع الصحافيين، ولم يعد يلزمنا إلا الصحافة (مسكينة) لكي ننظر في وجهها العزيز. 

ومع ذلك، ولأنني ابتليت بالتفاؤل الأبدي، وأدمنته، وقررته حلا لكل المشاكل الحقيقية والمفتعلة، فإني أرى في كل ما يقع اليوم أمرا إيجابيا، وربما بداية حل لميدان استعصى على كل حلول الأرض، ولم يبق له إلا رفع العين إلى السماء، لعل العناية الربانية تجود علينا بمخرج مشرف للجميع من مأزق جد مخجل. 

وسواء كنت مع هذه الضفة، أو مع الأخرى، وحتى إذا كنت بدون ضفاف، ستكون مضطرا للاعتراف ــ منذ سنوات عديدة وليس الآن فقط ــ أن المشهد أصبح مزريا، مخجلا، نازلا باستمرار، بل ومصرا بكل إلحاح على النزول. 

وفي وجه كل محاولة إصلاح ــ أصابت أم أخطأت ــ كنت تجد "علماء" كبار يرفعون الفيتو، ويقولون "لا، نريد بقاء الوضع على ما هو عليه، وعلى من يعتبر نفسه متضررا (أي عموم المهنة) أن يلجأ إلى القضاء… الرباني، بأن يشكو هوانه وضعفه وقلة حيلته إلى العلي القدير، والسلام". 

قلنا غير ما مرة إن الوضع لن يبقى على ما هو عليه، وسيزداد اندحارا. 

قيل لنا "صه". 

خرسنا، ولم ننبس ببنت شفة. 

اليوم، المشهد يهدي نفسه إليكم كما هو: عاريا، متشرذما، ممزقا، لا يستطيع جزء صغير منه أن يعترف بوجود الجزء الآخر، ولا يقبل ذلك. 

اليوم هذا النزول واقع لا يرتفع، وهو لا يمس هذه الفئة دون الأخرى، بل يسري، بحمد الله، على الجميع دون أي استثناء، فما الذي نحن فاعلوه؟ 

الحرفة، المهنة، العمل، المنتوج، المادة الصحفية. فقط لا غير. 

ولنترك الوقفات لمن لا يستطيعون الجلوس، ولنترك التجمعات لمن لا يستطيع الاختلاء بنفسه لمصارحتها بالحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، ولنترك البيانات والتوقيع عليها لمن لا يستطيع توقيع المقالات الحقيقية. 

لنصمد بعملنا الفعلي في الميدان، وبمهنتنا الوحيدة في الحياة، ولنترك أصحاب المهن (والوجوه) المتعددة، يقتتلون، ففي نهاية كل هذا الخراب، سنجد تلا ما نعتليه، على صغره، ومنه سنبدأ من جديد عملية البناء.