في إفريقيا عبر سياسة التعاون جنوب–جنوب والشراكة المتوازنة مع أوروبا ومع أمريكا عبر التحالف الاستراتيجي ومع الصين وروسيا عبر الاحترام المتبادل

من السهل في زمن التبسيط المفرط أن تختزل القضايا الكبرى في سرديات سطحية، ومن الأيسر على البعض أن يربط نجاحات المغرب الدبلوماسية في قضية الصحراء المغربية بحدث واحد هو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كأن التاريخ الدبلوماسي للمملكة بدأ من لحظة التطبيع وانتهى عندها.

غير أن القراءة السياسية المتأنية تكشف أن ما تحقق ليس نتاج صدفة سياسية أو تحالف ظرفي، بل نتيجة مسار طويل من العمل المتواصل، ورؤية استراتيجية ممتدة في الزمان والمكان، تستند إلى شرعية تاريخية وقانونية ودبلوماسية متراكمة.

في هذا الصدد أكد يوسف الإدريسي، رئيس الجمعية الفرنسية المغربية لحقوق الإنسان- باريس، أن  المقترح المغربي للحكم الذاتي لم يكن وليد مرحلة ما بعد التطبيع، بل طرح منذ عام 2007، أي قبل عقد ونصف من إعادة العلاقات مع إسرائيل، وتبنته الأمم المتحدة آنذاك كـ”مقترح جدي وذي مصداقية وواقعي”.

واعتبر أن هذا التصنيف لم يكن ثمرة ضغوط سياسية، بل اعترافا أمميا بقدرة المغرب على تقديم حل سياسي متوازن، يحفظ كرامة الجميع ويضمن الاستقرار في منطقة تهتز بتقلبات الأزمات.

وأضاف أن الادعاء القائل إن دعم الولايات المتحدة لمغربية الصحراء كان فقط ثمرة للتطبيع، فهو قراءة ناقصة وغير دقيقة للوقائع، إذ لا يمكن إنكار أن المصالح الاستراتيجية بين واشنطن والرباط تعود إلى عقود من التعاون العسكري والاستخباراتي والاقتصادي، منذ استقلال المغرب سنة 1956.

وأبرز أن الولايات المتحدة لم تكن يوما خارج حسابات الرباط، كما أن المغرب ظل دوما شريكا استراتيجيا معتدلا في شمال إفريقيا، يجمع بين الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي، وهو ما جعل منه رقما صعبا في معادلة الأمن الإقليمي.

وأشار الإدريسي إلى أن السؤال الأكثر عمقا هو: كيف يمكن تفسير مواقف روسيا، والصين، وباكستان، والدول الأخرى التي امتنعت عن التصويت أو دعمت المغرب في مجلس الأمن الأخير؟، متسائلا:" هل هذه الدول، التي تختلف جذريا في توجهاتها الإيديولوجية ومصالحها الجيوسياسية، فعلت ذلك لأنها تؤيد "تطبيع المغرب مع إسرائيل”؟.

واستدرك موضحا: "بالتأكيد لا. فروسيا والصين، اللتان تربطهما علاقات متوترة مع الغرب وإسرائيل، لا تتخذان مواقفهما بناء على أجندات أمريكية، بل على حسابات براغماتية دقيقة."

 وأفاد أن امتناعهما عن التصويت هو موقف حيادي محسوب، يعكس احترامهما لمقاربة الحل السياسي الواقعي التي يقترحها المغرب، دون الانخراط في تجاذبات دبلوماسية لا تعنيهما مباشرة.

أما باكستان، الدولة الإسلامية ذات الموقف التاريخي الحذر من إسرائيل، فامتناعها، حسب الادريسي، لم يكن تماشيا مع التطبيع، بل انسجاما مع موقفها التقليدي الداعي إلى حلول سلمية وسيادية قائمة على التوافق.

وفي الإطار ذاته، قال إن الأمر ذاته ينطبق على دول أخرى دعمت المقترح المغربي، مثل الإمارات، البحرين، قطر، السنغال، كوت ديفوار، الغابون، البرازيل، وحتى بعض دول أوروبا الشرقية، فكل هذه الدول ليست بالضرورة حليفة لإسرائيل، ولكنها رأت في مقترح الحكم الذاتي رؤية سياسية واقعية قابلة للتطبيق، توازن بين تطلعات الساكنة واحترام وحدة التراب المغربي.

وشدد الإدريسي، على أن من يختزل كل هذا المشهد الدولي المعقد في علاقة ثنائية بين المغرب وإسرائيل إنما يمارس نوعا من التبسيط المخل، بل ويميل إلى "الكسل الفكري” الذي يرفض الاعتراف بأن المغرب نجح لأنه خطط، وتفوق لأنه اجتهد، وكسب المواقف لأنه راكم رصيدا من الثقة والمصداقية في المحافل الدولية.

وأردف موضحا:" التطبيع قد يكون عاملا مساعدا في بعض الملفات التكتيكية، لكنه لم يكن ولن يكون الأساس في بناء شرعية موقف امتد لأكثر من أربعة عقود من الدفاع المستميت عن قضية وطنية عادلة".

وأضاف أن المغرب أدرك منذ زمن أن العالم لا يدار بالعواطف، بل بالمصالح، وأن الدفاع عن الوطن لا يقتصر على الخطب والشعارات، بل يمر عبر الدبلوماسية الهادئة والعمل الميداني المستمر.

"ومن هنا نفهم كيف استطاعت الرباط أن تتحرك في كل الاتجاهات: في إفريقيا عبر سياسة التعاون جنوب–جنوب، وفي أوروبا عبر الشراكة المتوازنة، ومع أمريكا عبر التحالف الاستراتيجي، ومع الصين وروسيا عبر الاحترام المتبادل." يضيف المتحدث فهذه القدرة على الجمع بين المختلفين هي جوهر قوة المغرب الدبلوماسية، لا التطبيع وحده ولا أي تحالف مؤقت.

وخلص إلى أنه إذا كان البعض يحاول التقليل من شأن الإنجاز المغربي، فلأن نجاح المغرب يزعج من اعتادوا الفشل، ويحرج من بنى مواقفه على العداء الأيديولوجي لا على القراءة الواقعية. فالقضية لم تعد قضية "من يساند من”، بل قضية من يملك رؤية شاملة تحقق الاستقرار الإقليمي وتمنح الأمل لشعوب المنطقة.

وشدد على أن من أراد أن يفهم نجاح المغرب في ملف الصحراء، فليقرأ في فكر الدولة المغربية لا في صفحات التواصل الاجتماعي. فالحكمة تقول: "السياسة لا تصنعها المصادفة، بل تصنعها العقول التي تعرف متى تصمت ومتى تتحرك.”