ربما هذه من أصعب المقالات التي كتبتها، بسبب الرغبة الجامحة في الاحتفال المستحق، عوض الاستغراق في الكتابة التي تتطلب أعصابا باردة، أستدعيها بصعوبة، ولكن الواجب المهني مؤطرا بالواجب الوطني يرغمنا على العودة إلى فضاء الأحداث والتصريحات والفرضيات والنبوءات غير المستحيلة.

 

 وفي كل هذا، نتأسى بملك البلاد الذي خرج مباشرة بعد تصويت مجلس الأمن بأغلبية ساحقة لأعضائه على القرار الذي صاغته الولايات المتحدة الأمريكية، والمنحاز رغم كل التعديلات إلى المقترح المغربي بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، ليخاطب شعبه بكل مسؤولية ورؤية متبصرة بالواقع المستجد، وبالمآلات القادمة خيرا وسلما ونماء.

  لقد عبر الملك بوضوح عن الارتياح لمضمون القرار الأممي، واعتبره منعطفا حاسما، ليس في تاريخ هذا النزاع المفتعل، بل منعطفا حاسما في تاريخ المغرب الحديث.

 إن اعتبار الأمر كذلك من أعلى سلطة في البلد، ليس من قبيل التنميق البلاغي والمحسنات اللفظية، بل له مدلولات كبرى، تعني أن المغرب مقبل على تغييرات كبرى، ستهم البناء الدستوري، وتخطيط وتدبير المجال الجغرافي، والذي سيقتضي فلسفة جديدة في الحكم قائمة على التحولات في إطار الاستمرارية.

وقد قام الملك بالتبئير على هذا التوجه المستقبلي، حين أردف أن مغرب ما قبل 31 أكتوبر 2025 لن يكون هو المغرب ما بعد هذا التغيير.

 ففي نشوة الفرح المستحق، يأبى جلالته إلا أن يذكرنا بضرورة أن نترك أقدامنا على الأرض، لأن عملا كبيرا ينتظرنا، ويطلب منا التسلح بأقصى ممكنات اليقظة والمسؤولية، حتى ننجح في تثمين هذا الاختراق الكبير والمفصلي، ومراكمة المكتسبات التي يجب أن يكون عائدها في صالح كل المواطنين، وكل الجهات، التي أكد الملك في هذا الخطاب ألا فرق بينها.

  وفي ثنايا هذا الخطاب، كان الملك يطمئن المغاربة بطريقته الخاصة، ويبدد الهواجس التي قد تنتاب أحدا، خصوصا وأن أبواق الدعاية المضادة بعد أن تستفيق من هذه الصدمة، ستحاول معاودة التشكيك في هذا المسار، من بوابة إثارة المخاوف حول مآلات الحكم الذاتي القادم حتما.

‏‎ ومن ذلك، حديث الملك الواضح على أن من المكتسبات في هذا المسار الجديد تقوية السيادة الاقتصادية الوطنية للمغرب في الصحراء، بحيث ستستقبل هذه المنطقة ذات الموقع الاستراتيجي المهم استثمارات أجنبية، وحيث ستتحول إلى منصة للمبادلات التجارية، بأفق إقليمي واعد ينسجم مع ما يفترض من دولة صاعدة.

وهذا معنى حديثه عن التنمية الاقتصادية في منطقة الساحل والصحراء، ولذلك نفهم اليوم سر التوجه المغربي جنوبا منذ سنوات لبناء تكامل اقتصادي بين دول الساحل والصحراء، على أرضية "رابح/رابح" خلافا لوضع الأزمات البينية والحروب الأهلية التي كانت تديم واقعي الفقر والتبعية لقوى دولية من خارج المنطقة، فلقد كانت الاستراتيجية الملكية لحسم معركة الوحدة الترابية تتجاوز النطاق الوطني نحو المجال الإقليمي الأوسع.

  وقد كان الملك واضحا وحاسما في الآن نفسه، حين أخبر المغاربة أن بلادنا ستقدم قريبا عرضها للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية مفصلا ومحينا، للأمم المتحدة، من أجل بدء مشاورات جدية، وقد أخطأ البعض حين اعتبر أن حديث الملك عن تحيين نقترحه، يفهم منه بأن هناك ملاحظات على اقتراحاته من طرف القوى الكبرى التي صوتت لصالح المخطط، بينما التحيين يقصد به غالبا تحيينا لما اقترحه المغرب سنة 2007 حين وضع مقترحه للحكم الذاتي أول مرة، وهو المقترح الذي تضمن حينذاك إمكانية توفر الصحراء على برلمان جهوي تنبثق منه حكومة محلية، وأن تكون موارد هذه المنطقة من العائدات الضريبية المحلية، والموارد الطبيعية المحلية، فضلا عن اعتمادات من الدولة في إطار التضامن الوطني، مع احتفاظ المغرب بكل مقومات السيادة الوطنية (هذا هو المفهوم الحقيقي لتحت السيادة الوطنية)، أي العلم والنشيد الوطنيين، والعملة، وإمارة المؤمنين، والدفاع الوطني، والعلاقات الخارجية، والنظام القضائي.

 وحين شكر الملك الدول الشقيقة والصديقة التي دعمت المغرب مؤخرا للوصول إلى هذا المفصل التاريخي، خاصا بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا، ثم المجموعتين الإقليميتين العربية والإفريقية، فلم يكن ذلك عرفانا بالجميل فقط، بل كان يحمل دلالة على قوة الموقف المغربي، إذ تدعمه ثلاث من الدول الكبرى صاحبة حق النقض بمجلس الأمن، والمستعمر السابق للصحراء الذي يعرف جيدا خبايا النزاع، والمحيط الإقليمي للمغربي بيعديه الجغرافي/ الثقافي (شمال إفريقيا والشرق الأوسط) والقاري (إفريقيا).

 وعلى ذكر إسبانيا، فمما يغفله كثيرون أن الأرشيف السري المرتبط بحقبة سيطرتها على الصحراء، قد اقترب الموعد القانوني لإخراجه من السرية، ووضعه أمام العموم، ولا شك ان جزء من أسباب تغير الموقف الإسباني هو الإحراج الذي قد يسببه هذا الأرشيف، فمما تسرب منه مثلا أن الجنرال فرانكو قبل أشهر قليلة من المسيرة الخضراء كان يعتزم تسليم الصحراء إلى صحراويين لتأسيس دويلة في إطار علاقة تبعية مع إسبانيا الكبرى، على غرار السورينام المرتبطة بهولاندا، أو غوييانا المتاخمة للبرازيل والمرتبطة إداريا بفرنسا، وأن المسيرة الخضراء هي التي أحبطت هذا المخطط.

  لقد أثبت الملك انه كريم ابن الكرماء، وهو يرفض الحديث عن انتصار المغرب، إذ لا انتصار لوطن على أبنائه، وأعاد الحديث عن حل لا غالب فيها ولا مغلوب، احتراما لكرامة أبناء المغرب من الصحراويين المقيمين في تندوف، وجبرا منه للخواطر، وفتحا لباب التسامح والسلم والعفو الكريم الحافظ للكرامة، وكأني به يخطو خطى جده المصطفى عليه السلام، وهو القائل: من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.

 وبنفس الخصال الكريمة، وعزة النفس غير الحقودة أعاد نداءه لرأس السلطة في الجزائر، مبينا أنها كذلك مشمولة بأفق "لا غالب ولا مغلوب"، وبين الغاية من ذلك، وهي إعادة بناء الاتحاد المغاربي على أسس صحيحة.

 وهنا نتذكر أن الملك كان قد وضع هذا الاتحاد في فترة سابقة على الهامش، إذ لم يكن يرى جدوى في تكرار كلمات دبلوماسية حول التشبت بإطار لم يعد يشتغل بفعالية وأضحى معطلا، ولكن حين بدأت تلوح بوادر حل إقليمي لنزاع الصحراء المفتعل وللتوترات مع الجار الشرقي، أعاد وضع هذا الحل على أفق إعادة الروح إلى هذا الاتحاد، الذي أضحى واجبا وفق هذه المعادلة.

وبالتالي فالملك يربط الحل النهائي لنزاع الصحراء المغربية  بإمكانات وطنية وإقليمية.

وطنية مرتبطة باستكمال عناصر السيادة الوطنية والسياسية والاقتصادية على كل التراب الوطني، والتأسيس لملكية جديدة (على غرار ما يسمى الجمهورية الأولى والثانية وصولا إلى الخامسة في فرنسا) دستوريا وسياسيا وحقوقيا وتنمويا.

وإقليمية بتحول المغرب إلى قوة صاعدة، ولكن ليس على حساب باقي دول المنطقة، بل باعتباره طليعة لتكتلات إقليمية (الساحل والصحراء جنوبا، والمغرب الكبير غربا).