لا يتعلق الأمر بالإعلام المواطن، بل بالإعلام الوطني، وثمة فرق بين الأمرين، وإن كانت الحاجة إليهما كليهما هو من واجب الوقت، ومن الضروري النهوض الصادق نحو إعادة التأسيس لهما على أسس صلبة، تضمن لهما الاستدامة، وتمنع كافة أشكال النكوص والتراجع.

وإذا كان الإعلام المواطناتي لا يتطلب غير أن تنحو المنابر والمقاولات الإعلامية منحى المهنية واحترام أخلاقيات المهنة، إذ إن الإعلام بهذا المعنى هو خدمة عمومية، حتى لو صدر عن القطاع الخاص، باعتباره يلبي حاجة المواطنين إلى الوصول إلى المعلومة، والتثقيف، وفضح الفساد، واحتضان النقاش العمومي، في كل القضايا التي تهم الرأي العام الوطني، فإن الإعلام الوطني يتطلب إضافة إلى ذلك وجود استراتيجية وطنية للإعلام، تضعه في خدمة المصلحة الوطنية العليا، مما يجعله واحدا من أدوات السيادة، في عالن يعتبر فيه الإعلام ضلعا من أضلع الحروب والدفاع عن الدول.

يكفي أن نتأمل جميعا (ولو بمرارة) المشهد الإعلامي الدولي المتسم بالتنافسية والحملات المغرضة وصناعة الخبر بالطريقة التي تخفي الرهانات الثاوية خلفه، مما يجعله أكثر تأثيرا في بناء المتخيل، الذي يتحول دون أن يشعر المتلقي إلى ما يشبه المسلمات، يكفي كل ذلك لتبرز لنا الحاجة الملحة إلى إعلام وطني قوي يستطيع الدفاع عن مصالح المغرب وسيادته. فالإعلام لم يعد مجرد ناقل للأخبار، بل أصبح أداة استراتيجية في صراع المصالح وتشكيل الوعي.

فبلادنا تمر بمرحلة تاريخية حاسمة تشهد فيها البلاد تحولات تنموية كبرى على المستويات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، لكن هذه الإنجازات لا تجد التغطية الإعلامية العادلة التي تليق بها.

أمام هذا الواقع، يصبح بناء إعلام وطني قوي ومؤثر ضرورة حتمية للتصدي للحملات الإعلامية المغرضة، والترويج للسردية المغربية الأصيلة، والمساهمة في تشييد التمثلات الذهنية الحقيقية، التي تعكس حقيقة بلادنا وعناصر تقدمها، باعتبارها قوة صاعدة بثبات ورؤية متبصرة.ً

فبلادنا تشهد في السنوات الأخيرة دينامية تنموية كبرى تتجسد في مشاريع استراتيجية ومخططات اجتماعية واقتصادية طموحة، إلى جانب رؤية دبلوماسية متعددة الأبعاد جعلت من قضية الصحراء المغربية محوراً مركزياً للسياسة الخارجية، وهو ما انعكس إيجابا في الدينامية التي تشهدها مختلف مؤسسات الأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية الكبرى، والعواصم ذات التأثير في الصراعات الدولية، لصالح الانتصار لمقترح المغربي بالحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية.

كما تمكن المغرب من ترسيخ حضوره كقوة إقليمية صاعدة وفاعل دولي يحسب له الحساب في ملفات الأمن، ومكافحة الإرهاب، وتدبير قضايا الهجرة، والمساهمة في رسم السياسات المناخية العالمية.

إلا أنه، ورغم هذه الإنجازات، يتعمد بعض الإعلام الخارجي تجاهل هذه النجاحات أو تشويهها، كما ظهر في التغطية المغرضة لبعض المنابر الإعلامية الأجنبية التي تستهدف المؤسسات الوطنية السيادية، خصوصا الأكثر فعالية على المستويين الديبلوماسي والأمني.

غير أنه لا يجب أن نحمل المسؤولية فقط لهذا الإعلام الخارجي المتواطئ مع خصوم بلادنا، او الذي يشتغل وفق أجندات مشبوهة، أو بمقابل عن الخدمات القذرة التي يؤديها، بل يجب بالموازاة مع واجب فضح هذه الارتباطات المشبوهة، القيام بنقد ذاتي صادق لواقع إعلامنا الوطني.

إن المشهد الإعلامي المغربي يعاني من فجوة واضحة في التأثير على المستويات الإقليمية والدولية، حيث يغيب وجود منصات إعلامية عمومية وخاصة قادرة على منافسة الوسائل الإعلامية العالمية والتأثير في الرأي العام الدولي، بل أحيانا يفشل حتى في تحصين المواطنين المغاربة من السموم المتسربة عبر منافذ الإعلام الخارجي بنوعيه الكلاسيكي والرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي. مما يجعل الحاجة ماسة إلى إعلام قوي يدافع عن قضايا المغرب الكبرى، ويواجه الأطروحات المغرضة. ويتطلب ذلك إعادة هيكلة الإعلام العمومي وتحويله إلى إعلام مرجعي وطني خالص، بدل محاولاته المنافسة العبثية على مستويات الترفيه المبتذل، أو استيراد مواد درامية  تمثل عناصر قوة ناعمة لبلدانها الأصلية، ودبلجتها، ومن الحلول المقترحة لهذه المعضلة، إطلاق قنوات مهنية موجهة للخارج بلغات عالمية، خاصة الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، تستقطب كفاءات إعلامية مغربية من الداخل والخارج، كما يمكن إحداث صحف قوية من أوروبا باللغة الإنجليزية أو العربية، ومواقع رقمية مهنية، على غرار ما تفعله كثير من الدول، ومنها دول شرق أوسطية كمصر والسعودية والإمارات وقطر.

ويتطلب الأمر كذلك تطوير الإعلام الخاص، الذي يجب أن تكون قاطرته الحقيقية مقاولات كبرى ومتطورة وخالقة لفرص شغل وقادرة على استقطاب الكفاءات الإعلامية الوطنية بدل تركها فريسة استقطاب الإعلام الخارجي ذي القدرة على ممارسة إغراءات (بالمعنى الإيجابي لا السلبي) تتضمن الوعد بتطوير النجارب وفتح آفاق للنجاح أوسع مما تسمح به "السوق المغربية".

وللأسف، فإن المقاولات الإعلامية الكبيرة نسبيا في المغرب، والتي لها إمكانيات التطور إذا ما كان هناك دعم حقيقي منطلق من استراتيجية وطنية لتشييد صناعة إعلامية قوية ببلادنا، هي الأكثر تعرضا لحملات التشويش والتضليل، ولحروب صغيرة للإعاقة والتعطيل.

غير أنه، وللأسف، فعوض الانكباب على هذه القضايا الكبرى، فإن الساحة الإعلامية المغربية تفضل إضاعة وهدر المزيد من الوقت والجهد ً في صراعات داخلية حول الدعم، وتمعن في تعطيل استواء التنظيم الذاتي للمهنة، الذي يتطلب تيسير الظروف للقطع في أقرب فرصة مع زمن المؤقت.

مع العلم أن أي صيغة نهائية لقانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، ومع افتراض وجود بنود معيبة فيها، فتدخل في القضايا القابلة للحل والتصحيح في أي وقت. فالمهم حاليا هو استعجال خروج القانون من أجل التفرغ للأهم، فلقد حان الوقت لتجاوز هذه الخلافات والتركيز على الأولويات الحقيقية للنهوض بالإعلام الوطني.

إن الأولوية يجب أن تكون لإنهاء الجدل حول هذه المشاريع التنظيمية، والإسراع في إقرار القوانين المنظمة للمهنة، لأن وجود أطر قانونية منظمة، حتى وإن كانت تحتاج لتصحيح لاحق خلال الممارسة، خير من الاستمرار في الفوضى التي تعيق تطور القطاع الإعلامي برمته.

ولا يتعلق الأمر فقط بالقانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة، بل يجب الإسراع باستكمال الأطر القانونية المنظمة لقطاع الإعلام برمتها، حيث يشكل وجود تشريعات واضحة وشاملة أساساً لبناء إعلام قوي ومهني. فمن خلال الإطار القانوني الواضح، يمكن تحقيق الاستقرار للعاملين في القطاع، وجذب الاستثمارات، وضمان حرية التعبير في إطار المسؤولية. كما أن وجود قوانين منظمة يحد من الفوضى ويسهم في تطوير الممارسة الإعلامية، ويوفر البيئة الملائمة لتنمية المقاولات الصحفية.

ويحتاج الإعلام الوطني كذلك إلى استثمار استراتيجي في الكفاءات البشرية، من خلال تطوير برامج التكوين المستمر للصحافيين، وتحسين وضعيتهم المادية والمهنية. فبدون صحافيين متمكنين ومستقرين، لا يمكن بناء إعلام قادر على المنافسة وتحمل مسؤولية الدفاع عن المصالح الوطنية. كما أن تحسين الظروف المعيشية للصحافيين يحد من الهجرة الإعلامية نحو وسائل الإعلام الأجنبية، ويحفظ الخبرات والكفاءات الوطنية.

وكل هذا يحتاج إلى بيئة قادرة على احتضان كل هذه الطموحات، ولذا يجب تحويل المقاولات الصحفية إلى مؤسسات إعلامية قوية قادرة على المنافسة، من خلال تطوير نماذجها الاقتصادية، وتمكينها من الاستفادة من العائدات الإعلانية بشكل يوازي مساهماتها، ومواكبتها للتحولات الرقمية. وفي هذا الصدد، يمكن الاستفادة من التوجهات العالمية في دعم الإعلام، كما تفعل المملكة العربية السعودية التي تهدف من خلال استراتيجيتها الإعلامية إلى رفع مساهمة قطاع الإعلام في الناتج المحلي الإجمالي إلى 47 مليار ريال بحلول عام 2030

وإذا كان البعض يدفع بالإمكانيات الكبيرة للدول الخليجية، فيمكن في هذا الإطار الإحالة على النموذج الأردني في مجال الاستراتيجيات الإعلامية، حيث أطلق الأردن مسودة الاستراتيجية الوطنية الثانية لنشر الدراية الإعلامية والمعلوماتية (2025-2028) التي تهدف إلى بناء مجتمع واعٍ ومتمكّن رقمياً ومعلوماتيا، وبتمويلات مهمة.

إن بناء إعلام وطني قوي في المغرب لم يعد ترفاً، بل ضرورة استراتيجية لمواكبة التحولات الرقمية والدفاع عن المصالح الوطنية في الفضاء الإعلامي الدولي. والتحديات التي يواجهها الإعلام المغربي كبيرة، لكن الإرادة السياسية والوعي الجماعي بأهمية الإعلام كقوة ناعمة يمكن أن يحولا التحديات إلى فرص حقيقية. وقد حان الوقت لكي تتحد كل الجهود -حكومة ومؤسسات وطنية ومهنيين وإعلاميين- لبناء إعلام وطني قوي، يكون سنداً للدولة في تحقيق رهاناتها التنموية، ومدافعاً شرساً عن مصالحها الوطنية، وناقلاً أميناً لصورة المغرب الحضارية كدولة عريقة وصاعدة في الأن نفسه، تتجه بثبات نحو مستقبل أكثر ازدهاراً وتقدما.ً