يأتي البلاغ الصادر عن ما تسمى ب"جبهة البوليساريو" في سياق بالغ الدقة والحساسية بالنسبة لقضيتنا الوطنية، سواء من حيث تزامنه مع النقاش الدائر في مجلس الأمن حول تجديد ولاية بعثة المينورسو يوم 30 اكتوبر الجاري، أو من حيث التحولات التي تعرفها مواقف القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. ويتضح من خلال نظرة أولية لهذا البيان، أنه فعل سياسي منسق بدقة يعكس ازدواجية الخطاب الانفصالي وتبعيته الكاملة للسلطة الجزائرية التي تتحكم في مفاتيح القرار داخل الجبهة منذ نشأتها.
من الناحية الشكلية، حاول البيان أولا أن يتقمص لغة القانون الدولي، مستحضرا مفاهيم تمتح من قاموسه من قبيل: "تقرير المصير” و"الشرعية الدولية” و"حل عادل ودائم”، لكنه في العمق يعيد إنتاج نفس الخطاب الانفصالي المتجاوز كرونولوجيا وسياسيا. فاستعمال هذه المفاهيم خارج سياقها القانوني السليم يمثل توظيفا انتقائيا لمفاهيم الأمم المتحدة لخدمة أجندة سياسية محددة ترعاها الجزائر. فحق تقرير المصير، كما استقر في القانون الدولي، لا يمارس إلا وفقا لمبدأ وحدة أراضي الدول الأعضاء، ولا يمكن أن يستعمل لتبرير الانفصال أو المس بسيادة دولة قائمة عضو في الأمم المتحدة مثل المغرب.
من حيث المضمون، يكشف البيان عن محاولة فاشلة لإعادة تموضع الجبهة في المشهد الدبلوماسي بعد سلسلة الانتكاسات التي منيت بها، خاصة بعد توالي اعترافات دولية بمغربية الصحراء، وتنامي التأييد العالمي لمقترح الحكم الذاتي باعتباره الإطار الواقعي والعملي لحل النزاع. فإحالة البيان على "حسن نية واستجابة لقرارات مجلس الأمن” ليست سوى محاولة لتجميل موقف ميداني متأزم، بعد أن أصبحت الجبهة في عزلة إقليمية ودبلوماسية واضحة، خصوصا بعد المواقف الأخيرة لعدد من الدول الإفريقية التي سحبت اعترافها بالجمهورية الوهمية.
وفي ذات الاتجاه، لا يمكن فصل البلاغ عن الدور التحريضي الذي تقوم به الجزائر منذ اندلاع النزاع، فكل مؤشرات التحليل الواقعي تؤكد أن الجزائر هي الفاعل الحقيقي، وأن البوليساريو ليست سوى أداة وظيفية ضمن استراتيجية جزائرية تهدف إلى إضعاف المغرب وإعاقة اندماج المغرب العربي عموما. كذلك بالنسبة إلى اللغة الدبلوماسية المنسقة للبيان، وصياغته من مقر تمثيلية الجبهة بنيويورك، وتوقيته المتزامن مع مداولات مجلس الأمن، كلها دلائل تشير على أن البلاغ صيغ بتنسيق جزائري مباشر. الجزائر، التي تحاول استثمار كل محطة أممية لتأكيد وجود نزاع "إقليمي" مفتعل، ولتخفيف الضغط الدولي عليها بعد انكشاف تورطها في تمويل وتسليح وتحريك تنظيم البوليساريو.
وفي هذا الإطار أيضا ، يمكن قراءة البلاغ كأداة سياسية تهدف إلى خلق ضبابية في مواقف الدول دائمة العضوية، خصوصا في ظل التحولات الأخيرة في الموقف الروسي الذي يتسم بنوع من الغموض المصلحي. فروسيا، المتأرجحة بين منطق المصلحة الاقتصادية مع الجزائر والموقع الاستراتيجي للمغرب، تحاول في مجلس الأمن الحفاظ على توازن خطابها دون الانحياز الواضح لأي طرف على حساب الآخر. غير أن ما يغفله الانفصاليون اليوم هو أن روسيا الاتحادية، رغم تمايزها في بعض الصياغات داخل مجلس الأمن، لم تعترض يوما على قراراته التي تؤكد على حل سياسي واقعي وعملي ودائم، وهو توصيف يتطابق تماما مع المقترح المغربي للحكم الذاتي.
من جهة أخرى، يتجاهل البيان كل التطورات القانونية التي رسخها مجلس الأمن منذ سنة 2007، حين اعتمد لأول مرة مبدأ "الحل السياسي الواقعي والمستدام” بديلا عن الطرح التقليدي للاستفتاء، مما يعني أن المجتمع الدولي لم يعد يتبنى أبدا مقاربة تقرير المصير بمعناها الانفصالي. بل إن قرارات مجلس الأمن المتتالية أبرزت ذلك الدور الريادي للمغرب في إنجاح التسوية السياسية، مقابل تحميل الجبهة والجزائر مسؤولية التعطيل والمماطلة. كما يمكن القول إن البلاغ نفسه هو في عمقه محاولة يائسة لإعادة بناء "شرعية تفاوضية” مفقودة، بعد أن أضحت البوليساريو خارج منطق الحلول الواقعية. فهي تسعى عبر هذا البيان الجديد إلى خلق انطباع بأنها شريك في العملية السياسية، بينما هي في الواقع طرف تابع لا يملك سلطة القرار. والجزائر، بدورها، تحاول من وراء هذه المناورة أن تنقل الصراع من بعده الإقليمي إلى بعده الدولي لتستدر تعاطف بعض القوى التي ما زالت توظف الخطاب الكلاسيكي لحق تقرير المصير خدمة لمصالحها الجيوسياسية.
أما على المستوى القانوني، فإن البيان يتضمن مغالطة جوهرية حين يتحدث عن "الاستعداد للتفاوض دون شروط مسبقة”، لأن الجبهة في الواقع ترفض كل المبادرات الواقعية التي يقدمها المغرب تحت إشراف الأمم المتحدة. هذا التناقض يعكس انعدام الإرادة السياسية لديها، وارتباطها بأجندة الجزائر أكثر مما يعكس موقفا تفاوضيا مستقلا. كما أن تكرارها لعبارة "تقرير المصير” دون تحديد آلياته القانونية يُظهر استهلاكها السياسي لمبدأ فقد مضمونه في هذا النزاع تحديدا.
ويبرز من تحليل مضمون البيان برمته أن هدفه المركزي هو إعادة تسويق صورة البوليساريو كـ"فاعل شرعي" في وقت فقدت فيه معظم الدول الإيمان بمصداقيتها. وهو خطاب دفاعي واندفاعي يعكس مأزقا سياسيا ودبلوماسيا أكثر مما يعبر عن رؤية استشرافية للحل. كما أن استدعاء "الاتحاد الإفريقي” و"ميثاق الأمم المتحدة” ليس بدوره سوى محاولة لتوسيع دائرة الشرعية الشكلية، رغم أن الميثاق الأممي نفسه يؤكد على احترام وحدة أراضي الدول الأعضاء، وهو المبدأ الذي يقف حجر عثرة أمام الأطروحة الانفصالية.
وهكذا يمكن القول إن البلاغ ما هو إلا خطوة استباقية تعكس حالة ارتباك استراتيجيا واضح داخل الجبهة ووصايتها الجزائرية. فالمغرب اليوم، بحكم موقعه الجيوسياسي وشراكاته المتقدمة مع القوى الكبرى، استطاع أن يحوّل القضية الوطنية من ملف نزاع إلى قضية استقرار إقليمي وأمن جماعي. أما البوليساريو، فتبقى رهينة خطاب متكلس ووصاية نظام جزائري مأزوم يحاول تصدير أزماته الداخلية عبر خلق توترات خارجية في محيطه الاقليمي.
إن القراءة الموضوعية لهذا البلاغ، تؤكد أن الجزائر هي المحرك الحقيقي وراءه، وأن هدفه ليس إحلال السلام بل تأبيد النزاع. في المقابل، سيظل المغرب، بمقترحه للحكم الذاتي وبدبلوماسيته الواقعية، هو الطرف الوحيد الذي يترجم فعلا مبادئ الأمم المتحدة في السلم والأمن الدوليين، بينما تظل الجبهة مجرد أداة ضمن صراع إقليمي فقد مبررات وجوده التاريخية.