صدر عن الديوان الملكي بلاغ حول انعقاد مجلس وزاري، ترأسه جلالة الملك يوم

19 أكتوبر 2025، خصص للتداول في التوجهات العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2026، والمصادقة على مشاريع قوانين تنظيمية وغيرها من التعيينات.

‏‎  هذه الخطوة تأتي في ظرفية وطنية ودولية تنذر بتحديات متعددة، لكنها في الوقت نفسه تُشكل فرصة لإطلاق دفعة جديدة من الإصلاحات، نحو مشروع تنموي واجتماعي مغاير.

 

‏‎  ومن أهم ما ورد في البلاغ: أن مشروع قانون المالية يستشرف مرحلة تحول من «تنمية تقليدية» إلى «تنمية مندمجة ومتوازنة» تجمع بين البعد الاقتصادي والاجتماعي، والمجالي

كذلك،

‏‎ وقد تم التنصيص في البلاغ بوضوح أن التوجيهات الملكية تشمل تمكين الشباب والنساء، وتوسيع فضاء العدالة المجالية.

 

‏‎هذه الإشارات تحمل دلالتين اثنتين، فالدلالة الأولى تؤكد أولاً: الجيل الجديد للإصلاح ليس شعارا بل منهجا، والدلالة الثانية هي عبارة عن دعوة مفتوحة للمشاركة السياسية الإيجابية، على أساس توطيد الانسجام بين الدولة والمجتمع، خاصة الفئات التي تشعر بأنها كانت «على الهامش».

فمنذ وقت ليس بالقصير، بدأت بوادر تعبر عن استنفار شبابي جديد، لم تعد تمثله المؤسسات التقليدية وحدها، ولعل احتجاجات شباب (جيل زيد) هي تعبير من ضمن تعبيرات كثيرة جيلية وفئوية ومناطقية عن حالة من عدم الرضى على السياسات الحكومية، في علاقتها بواقع الأسر والمناطق التي لم تستفد كثيرا من مسار الإصلاحات.

 

‏‎وجاء البلاغ – ومعه مخرجات المجلس الوزاري – ليخاطب هذا الواقع: فتركيبة مشروع قانون المالية 2026 تضع الشباب والمرأة والعدالة المجالية في صلب الأولويات.

 

‏‎ولذلك، فلسنا متسرعين إذا اعتبرنا أن مخرجات المجلس الوزاري الأخير كانت بلمسة ملكية تمثل تجاوبا مع المطالبات المتصاعدة، ولكن بنفس مؤسساتي. وما يدعم ذلك أن التوجيهات الملكية تؤكد ضرورة إدماج الشباب في سوق الشغل، وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة، وهو ما يتقاطع مع أحد أهم مطالب جيل زيد.

 

فاختيارالتوجه نحو «برامج التنمية المجالية المندمجة» يعني أن التنمية لن تبقى حبيسة المدن الكبرى أو الطبقات المهيمنة، بل ستطول المناطق الهامشية حيث يعيش كثير من شباب هذا الجيل.  

‏‎والتزام تمكين المرأة/الشباب، والمشاركة الفاعلة لهم في الحياة العمومية، يفتح مدخلا لتعزيز الثقة لدى جيل لطالما كان حضوره في المؤسسات المنتخبة ضعيفا وهامشيا، وكذلك الأمر بالنسبة للنساء.  

 

  وهذا يطرح تحديات ليست بالسهلة على الفاعل السياسي، والحكومي تحديدا، بسبب التراجع في منسوب الثقة بين المجتمع والمؤسسات المسؤولة عن تنفيذ السياسات العمومية.

فهذا الجيل، ومعه أغلب المواطنين، ينتظر نتائج ملموسة أكثر من البيانات والتصريحات. التي ما فتئ يرددها السياسيون، ويتطلع إلى شفافية واختيارات تُرى على أرض الواقع.

‏‎    إن التحول الأساس هنا ليس فقط في تخصيص ميزانيات غير مسبوقة، بل في إحساس الشباب بأن صوته يسمع، وأن موقعه في معادلة الدولة ليس هامشيا، ولذلك، فإن الخطوة المقبلة هي تنفيذ سريع، ومتابعة واضحة، وتواصل مباشر.

 

 

 

‏‎    إن التوجه الذي تمت بلورته ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يُعبر عن رغبة في الربط بين المالية العمومية والتنمية المندمجة، أي أن التمويل يجب أن يقود إلى أفعال على الأرض، وإلى مخرجات ملموسة في الخدمات والبنيات التحتية وجودة الحياة.

‏‎فبحسب المذكرة التوجيهية، حددت أربع أولويات كبرى:

 

‏‎أولا: توطيد المكتسبات الاقتصادية، وتعزيز موقع المغرب ضمن الدول الصاعدة، عبر  دعم الاستثمار، وتفعيل ميثاق الاستثمار، وتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة.

‏‎ثانيا: إطلاق برامج التنمية المجالية المندمجة، مع التركيز على المناطق الجبلية، والواحات، والسواحل، وتحسين خدمات التعليم والصحة فيها.

‏‎ثالثا: مواصلة تكريس الدولة الاجتماعية، من خلال تعميم الحماية الاجتماعية، ورفع مخصصات الدعم المباشر، وتحسين الخدمات العمومية.

رابعا: الإصلاحات الهيكلية والحفاظ على توازن المالية العمومية، وهو ما يقتضي تعزيز الحكامة، وتحسين مناخ الأعمال، والإصلاح المؤسساتي.

 ومن خلال هذه المداخل، يتضح أننا لسنا أمام تصريف تقني للمالية العمومية فقط، بل نحن أمام فلسفة في تدبير اللحظة والمستقبل معا، وأمام أجوبة على أسئلة يطرحها الرأي العام بطرق مختلفة، وتمثل هاجسا له.

‏‎  لا يجيب هذا العرض عن معضلة الشغل فقط، بل يضعها في صلب مشروع للعدالة الاجتماعية والمجالية، فالشغل يجب أن يكون رافدا ومصبا في الآن نفسه لتنمية الجبل والواحات وكل المناطق التي كانت تعتبر نفسها هامشا، لقد حان الوقت ليصبح الهامش مركزا للسياسات العمومية.

 والاقتصاد لا يمكن أن يُفصل عن الشأن الاجتماعي، فإذا كان الشباب يتساءل: لماذا نضخ الملايير في البنية التحتية، بينما مستشفياتنا في بعض المناطق لم تُجهّز بعد..؟

فإن الجواب يجب أن يكون عمليا ومقنعا ومحفزا. فالحكومة والمجتمع يحتاجان إلى أداء واقعي يعمق الثقة، لأن الاستثمار المالي وحده لا يكفي إذا لم يقد إلى التحسن في الخدمات، التي يلمس أثرها المواطنون.

‏‎ ولذلك فإن المدخل الاقتصادي التنموي مفصولا عن المداخل السياسية والديموقراطية لا يقود إلى الأمن الاجتماعي، وهذا جوهر الربط الملكي بين الرافعة الاقتصادية، وبين تجديد المؤسسات التمثيلية الديموقراطية، عبر ضخ دماء جديدة فيه.

إن أحد العوامل الأساسية التي تقيم مصداقية أي مشروع تنموي هو إيمانه بالمشاركة السياسية الحقيقية، وبأن الشاب ليس مجرد متلق بل فاعل، وهنا يظهر الربط بين التوجه المالي/التنموي والعملية الديمقراطية، خصوصا من بوابة الانتخابات والأحزاب والمؤسسات التمثيلية.

 إن مؤشرات عديدة، من بينها احتجاجات الشباب الأخيرة، تبين أن هؤلاء غير عازفين عن السياسة، لكنهم فقدوا الثقة في الأحزاب السياسية، وامتد حبل فقدان الثقة إلى المؤسسات المنتخبة.

‏‎  غير أنه لا توجد وصفة للديموقراطية دون أحزاب وانتخابات، مما يجعل من المستعجل

‏‎إعادة الاعتبار للعمل الحزبي والنظام الانتخابي، بما يمكن من استعادة الثقة في المؤسسات، ويساهم في محاربة الانعزالية والعدمية، ويقنع الشباب بأن رأيه مسموع ومؤثر.

ولذلك فالإصلاحات التنظيمية المرتبطة بالقوانين التنظيمية للأحزاب والمالية والحكامة، كما وردت في بلاغ الديوان الملكي، تعد مدخلا لإشراك أوسع في تدبير الشأن العام ومراقبة السياسات العمومية.

‏‎ وهذه فرصة أمام الفاعل الحزبي لإعادة بناء الذات التنظيمية وفق متطلبات هذا الأفق الاجتماعي، إذ على الأحزاب أن تفتح هياكلها للشباب والنساء بصلاحيات حقيقية، وليس بمواصفات التشغيل الشكلي للواجهة الحزبية، وأن تكيف حملات التوعية الانتخابية والسياسية وفق خصوصيات الحوامل الرقمية التي يتواصل عبرها الشباب.

‏‎  وإذا كانت مخرجات المجلس الوزاري قد نصت على تقديم منحة تحفيزية للشباب الراغب في المشاركة الانتخابية، عبر دعم مهم لحملاتهم الانتخابية، فإنه موازاة مع ذلك يجب الاشتغال على ضمان شفافية أكبر للتمويل الحزبي، وخصوصا في شق الحملات الانتخابية.

 

‏‎ لقد وضع الملك في خطاب العرش الأخير، وفي خطاب افتتاح الدورة الخريفية لآخر سنة في الولاية البرلمانية الحالية، وفي بلاغ الديوان الملكي الأخير المفاتيح الأساس لتنمية مجالية مندمجة ممكنة، تمثل جوابا واضحا على المرحلة. مما يفتح أملا جديدا مشرعا على الإصلاح الحقيقي.

‏‎غير أن هذا الأمل يحتاج إلى ترجمة سريعة، وإلى مؤشرات ملموسة، وإلى تواصل حقيقي مع الشباب، وإلى انتخابات يشعر فيها المواطن أن صوته ليس عبثا، وإذا ما تحقق هذا الربط بين توجيهات الملك، ومشروع المالية، والتنمية المجالية، والشباب، والمشاركة السياسية، فسنكون أمام محطة نوعية يعاود فيها المغرب مسيره نحو المستقبل بثقة أكبر، وبشباب واع، وبمشاركة معززة ومعبرة وفاعلة.