خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، عاشت المملكة المغربية على وقع موجة احتجاجات شبابية غير مألوفة من حيث طبيعتها وأدواتها، فقد خرجت دعوات عبر منصات رقمية مثل ديسكورد وتيك توك تدعو إلى النزول للشارع في مختلف المدن، مطالبة بإصلاحات عميقة في قطاعات الصحة والتعليم، وإيجاد حلول عاجلة لمعضلة بطالة الشباب، ما يثير الانتباه أن هذه الدعوات لم تصدر عن أحزاب سياسية، أو نقابات، أو جمعيات مدنية تقليدية، بل من طرف فئة من الشباب يطلقون على أنفسهم جيل "ز"، بعيدا عن أي تأطير سياسي أو نقابي.

إن هذا المستجد الرقمي والاجتماعي يطرح أسئلة عميقة، من هؤلاء الشباب؟ كيف استطاعوا التحول من مجرد مجموعات افتراضية إلى مجموعات واقعية في الشارع؟ وما الخلفيات الخفية لهذه الحركة؟

لا بد في البداية من التأكيد أن جيل "ز" في المملكة المغربية كما في باقي أنحاء العالم، يتميز بكونه جيل رقميا بامتياز، نشأ في كنف الانترنت وتشكل وعيه الجماعي عبر شبكات التواصل الاجتماعي أكثر مما تشكل عبر المؤسسات السياسية أو التعليمية، حين يتحرك هذا الجيل، فإنه لا يحتاج إلى هياكل تقليدية كالأحزاب أو النقابات، بل يكفي أن يتجمع حول هاشتاغ أو رابط على منصة ديسكورد، ليخلق دينامية قد يصعب التحكم فيها، لكن هذا الغياب للتأطير التقليدي يجعل الظاهرة معقدة، فمن جهة، المطالب مشروعة وعادلة، ومن جهة ثانية، من الصعب معرفة من يقود الحركة الاحتجاجية، ومن يحدد مساراتها، ومن يستفيد من نتائجها....

1- من جبروت إلى ديسكورد... تحول في الجغرافيا الرقمية

في خضم هذه التطورات، أعيد إلى الواجهة اسم مجموعة جبروت ولن أستبعده مطلقا، المجموعة السيبرانية التي اشتهرت سابقا باختراق قواعد بيانات حساسة وتسريب معلومات مالية وعقارية، قبل أن يكشف عن ارتباطها بأجندات خارجية معادية للمملكة المغربية، وهنا أطرح السؤال المركزي الذي يفرض نفسه اليوم، هل غيرت مجموعة جبروت موطنها الرقمي من الدارك ويب إلى منصات مفتوحة مثل ديسكورد؟ الدارك ويب كان دائماً فضاءً مثاليا للعمليات السرية، كالاختراقات وتسريب البيانات وبيع المعلومات، لكنه ليس الأنسب للتأثير على الرأي العام أو للتجنيد السياسي، بالمقابل، تشكل منصة ديسكورد فضاء آمنا نسبيا، بفضل غرفها المغلقة وخصائصها التفاعلية، وكما سبقت الاشارة فهو منصة مفضلة لدى جيل الشباب، خصوصا المهتمين بالألعاب الإلكترونية، هنا تكمن جاذبية الانتقال من السرية التامة إلى فضاء شبه علني، يتيح التجنيد، نشر الخطاب، والتأثير المباشر.

2- بين المطالب الاجتماعية والاختراق الأجنبي

من المؤكد أن جذور الغضب الشبابي مرتبطة بملفات اجتماعية ضاغطة، أزمة الصحة، اختلالات التعليم، وارتفاع نسب البطالة، هذه التحديات الواقعية تشكل وقود أي حركة احتجاجية، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن استبعاد احتمال استغلال أطراف خارجية أو مجموعات منظمة لهذا الوضع، بهدف توجيه الاحتجاجات نحو مسارات أكثر راديكالية أو تخريبية... فالخلط بين هذين البعدين الاجتماعي والسيبراني هو ما يجعل التعامل مع الظاهرة معقدا، فبينما قد يرى البعض في جيل "ز" حركة احتجاجية طبيعية نابعة من الداخل، يرى آخرون أن خلفياتها قد تحمل أجندات تتجاوز حدود المطالب الاجتماعية، الأمر الذي يطرح أمامنا السيناريوهات المحتملة الآتية:

* السيناريو الأول: انتقال فعلي لـمجموعة جبروت بحيث تكون من كنا نظنها مجموعة سيبرانية قد قررت فعلا نقل نشاطها نحو منصات مفتوحة مثل ديسكورد لاستغلال قابلية الشباب للتأثير والتعبئة.

* السيناريو الثاني: حراك اجتماعي مستقل بحيث يمكن

أن يكون جيل "ز" قد تحرك بشكل مستقل تماما، معتمدا على أدواته الرقمية، دون أي علاقة مباشرة بمجموعات مشبوهة مثل مجموعة جبروت.

* السيناريو الثالث: تلاقٍ عرضي، لكون

أن تستغل بعض العناصر ذات الخلفية السيبرانية فضاءات الشباب الرقمية، ليس لقيادة الحراك بل لإضفاء بعد إعلامي أو تضليلي يزيد من التشويش والضبابية...

إن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب مسارات مزدوجة تستند على مقارية أمنية صارمة، لضمان الاستقرار ومنع أي استغلال خارجي أو تخريب منظم، كما تستند أيضا على مقارية اجتماعية وسياسية ذكية لمعالجة جذور الإحباط الذي يعاني منه الشباب، عبر حلول ملموسة في الصحة والتعليم وفرص العمل، كما أن الحاجة ملحة لإطلاق برامج توعية رقمية، تمكن الشباب من التمييز بين المطالب المشروعة والاختراقات الفكرية أو الدعوات التحريضية التي قد تحمل في طياتها مخاطر على الأمن العام والنظام العام....

ما تعيشه المملكة المغربية اليوم، يعكس تحوّلا استراتيجيا في طبيعة الاحتجاجات من الشارع إلى الفضاء الرقمي، ثم العودة إلى الشارع عبر وسائط جديدة سواء كانت مجموعة جبروت قد تمددت إلى ديسكورد أم لا، فإن المؤكد أن الفضاء الرقمي أصبح جبهة أساسية للتعبئة والتأثير، وأن أي قراءة للمستقبل لا بد أن تدمج بين البعد الأمني والتنموي والاجتماعي، فجيل "ز" يملك القدرة على التحرك خارج الأطر التقليدية، وما لم تتم الاستجابة لمطالبه الواقعية، سيظل الباب مفتوحا أمام كل أشكال الاختراق والتوجيه...

 * خريج الدراسات الاستخباراتية