انطلقت الدورة الخريفية لمنتدى أصيلة لأول مرة في تاريخ هذا الصرح الثقافي، بدون حضور مؤسسه محمد بن عيسى... حضور جسدي طبعا... لكن روح بن عيسى كانت تملأ الفضاء، واسمه يتردد على كل لسان..

أصيلة، المكان والرمز، استقبلت ضيوفها بنفس الترحيب، ونفس الحب وكرم الضيافة. لكن بغصة واضحة عبرت عنها زفرة تأسف من ضيف هنا أو حشرجة بكاء أثناء إلقاء كلمة هناك أو دمعة فاضحة في عين صديق... وطبعا ما أكثر أصدقاء محمد بن عيسى.. فكل متحدث يقول إنه صديق بن عيسى الحميم.. وليس في الأمر مبالغة. فكل من جمعته صداقة مع محمد بن عيسى يعتقد أنه صديقه الحميم... وطبعا كل اعتقاد هنا صادق. فمحمد بن عيسى كان شخصا متفردا. كان يملك قلبا بدون ضفاف، يسع حب الناس كل الناس.. فالرجل عاشق متصوف، بلغ مرتبة العرفان، في تماهي عجيب مع الجمال...

في تعبير جميل قال أحد المتدخلين إن بن عيسى يمتلك خصلة إنسانية استثنائية. فهو يجعل محدثه يشعر بأنه مهم جدا، وهذا ييسر التواصل ويفتح باب الصداقة..

كل الذين تحدثوا عن محمد بن عيسى في افتتاح مهرجان أصيلة في دورته الخريفية لهذه السنة لامسوا جوانب عدة من شخصية الرجل... وكان حديث كل متكلم ينطلق من تجربة شخصية وفي لحظة أو لحظات أو في موقف أو مواقف، لكن كل راو يحتاج إلى غيره لتكتمل صورة أسطورة بن عيسى... ولن أخجل من هذه التسمية «أسطورة» فهذا الإجماع حول الرجل ومكانته وعطائه وما قدمه لأصيلة وللثقافة والفن والفكر، وما قدمه لبلده وللإنسانية، كل هذا يجعله أسطورة حقيقية...

على طول السنين التي نظم فيها محمد بن عيسى مهرجان أصيلة، كان لا يكل من الاجتهاد من أجل الفكرة التي ٱمن بها بشغف لا يوصف، وهي الاستثمار في الثقافة.. ووإيمانه العميق بأن الثقافة رافعة للتنمية...

ومن الخصال التي تفرد بها الرجل ذلك الشغف العجيب الذي يسكنه حد التملك. فيتقمص دور العريس كل موسم لا برضاه إلا أن يكون عرسا حقيقيا يستمتع فيه الناس وهم يناقشون الشائك من القضايا بمشاربهم الفكرية والإيديولوجية التي قد تصل حد التناقض... في أصيلة وحدها يختلط الشعر والأدب بالتشكيل ويجاورهم الفكر والسياسة. في أصيلة كان الجمال والإبداع ومقارعة الأفكار.

كل ذلك كان يجرى تحت رئاسة مايسترو في حالة انتشاء دائم، تعبر عنها ابتسامته وسحنات وجهه الجميل وتحركاته وهو يهيئ لموسم أو لندوة أو وهو يستقبل ضيوفه... كان الرجل يستمتع بما يقوم به، استمتاع العاشق الولهان...

لقد استطاع بن عيسى أن يحقق حلمه بأن يبرهن العالم بأن الثقافة ليست ترفا، بل قد تكون رافعة للتنمية والبناء. وطبعا الطبيعة لا تقبل سوى الدوام والاستمرارية. من هنا سلم بن عيسى مشعل الحلم وهو يأمل أن تتواصل المسيرة.. وفي آخر اتصال لي معه وهو على فراش الموت خاطبني قائلا أوصيكم بمنتدى أصيلة ففي ذلك مصلحة الوطن... وهي نفس الوصية التي قالها للعديد من أصدقائه وأصدقاء منتدى أصيلة...

لقد كان محمد بن عيسى رحمة الله عليه فكرة، والفكرة لا تموت... وصيته بالعناية بمنتدى أصيلة قدمها بصيغة الجمع. وهي وصية تعني الجميع خصوصا المؤسسات المسؤولة عن الثقافة والتنمية وعن صورة المغرب...