يعتقد البعض أن العدالة المجالية هي مجرد شعارات للاستهلاك من قبيل ما يرفع في الملتقيات والمنتديات والصالونات، وحتى شعارات الوقفات الاحتجاجية.. لكن بالنسبة لأبناء الجنوب الشرقي، هي تعبير مجسد في الملموس من المعيش اليومي، بما يحتويه من ظلم اجتماعي تاريخي.
العدالة المجالية بالنسبة لأبناء الجنوب الشرقي تتجسد في بنيات صحية تمكن السكان من الولوج إلى الحق في الصحة، وليس بنايات فارغة من الإنسانية وفارغة المحتوى والمعنى.
قبل أيام عجت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر وفاة سيدة ومولودها لعدم توفر مستشفى زاكورة على الوسائل الضرورية لمساعدتهما. مات المولود وهو في طريقه إلى مراكش، ثم تبعته الأم بنفس الطريقة ونفس الوسيلة.
حالة السيدة والمولود هي تجسيد لواقع صحي يعرفه أبناء المنطقة وهو عنوان بارز لمنطقة الجنوب الشرقي بصفة عامة، حيث يختفي الولوج إلى الخدمات الصحية إما لعدم وجود طبيب أو لغيابه وتفضيله ترك المستشفى والاشتغال في مصحات خاصة بالمناطق الداخلية من المغرب، وإما لغياب التجهيزات والوسائل. فعلى سبيل المثال إجراء عملية قسطرة لمريض فاجأته الأزمة، تتطلب نقله إلى مستشفى أو مصحة في مراكش أو أكادير أو أي جهة أخرى إلا جهة درعة تافيلالت.
العدالة المجالية بالنسبة لأبناء الجنوب الشرقي، خصوصا أبناء إقليم زاكورة، تتجسد في بنيات تدريسية جامعية. فإقليم زاكورة الذي يبلغ عدد سكانه 285 ألف نسمة، لا يتوفر على نواة جامعية. وعلى الطلبة الحاصلين على شهادة الباكالوريا الرحيل إلى المدن الداخلية لمتابعة دراستهم، بما يتطلب ذلك من تكاليف مادية وصعوبات اجتماعية وعراقيل جسيمة خصوصا بالنسبة للفتيات.
العدالة المجالية بالنسبة لأبناء الجنوب الشرقي، تتجسد في الحق في الثروة الوطنية والحق في الاستثمار والمشاريع والخدمات. الحق في العمل وفي العيش الكريم وفي البنيات التحتية الأساسية.
طبعا ما يجري في هذه الأقاليم هو ظلم اجتماعي ومجالي.. فمنذ سنوات أطلق المستعمر على هذه المنطقة اسم المغرب غير النافع، وبقي المعنى والتعامل على هذا الأساس إلى أجل غير مسمى.
في فترة معينة من تاريخ المغرب، خصوصا ما يعرف بسنوات الرصاص، تحولت المنطقة إلى فضاء للمعتقلات السرية، فزاد تهميشها. معظم المعتقلات السرية التي كانت موجودة في المغرب، تتمركز في منطقة الجنوب الشرقي. كان هناك معتقل تاكونيت ومعتقل أكدز ومعتقل قلعة مكونة ومعتقل تازمامارت. فتحولت المنطقة بكليتها إلى معتقل كبير يسوده هضم حقوق الناس في التطور والتنمية والارتقاء.
مع مسلسل العدالة الانتقالية، ومع مخرجات عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، جرى الحديث عن جبر الضرر الجماعي، واستبشر الناس خيرا بذاك. وساد الاعتقاد بأن المنطقة ستعرف اعترافا وردا للاعتبار. لكن للأسف لم يزد الأمر سوى سوء، حيث انضاف للتهميش الاجتماعي ظلم آخر يتمثل في مخلفات التغيرات المناخية، فأصبح الظلم مضاعفا فيه الوطني وفيه العالمي. فالواحات التي تشكل المنظومة الطبيعية لمنطقة الجنوب الشرقي، هي أكثر المنظومات تضررا من التغيرات المناخية. وقد ظهر التأثير على البيئة والناس والطبيعة فتعرضت الواحة للاستنزاف والتدمير، وهجرها العديد من أبنائها. وكدليل على هذه الهجرة الجماعية الفرق بين عدد السكان في إحصاء 2014 ونظيره في 2024. فقد نقص عدد السكان في عشر سنوات من حوالي 307 ألف نسمة إلى 285 ألف نسمة.
طبعا، الواحات لم تكن ضحية التغيرات المناخية وحدها فهناك سياسات فلاحية وعمومية عمقت من تأثير تلك التغيرات وهلكت الطبيعة والمجال. ويبقى الظلم الاجتماعي والمجالي عنوان للمنطقة إلى حين...