«المهم هو الهدف. أعرف الهدف الذي أريد بلوغه. لقد كان والدي، طيب الله ثراه، يعلم ذلك أيضا، وكان يدرك الهدف الذي يريد تحقيقه. وهذا الهدف هو هو، أي العمل من أجل تقدم ورفاهية المغرب». (الملك محمد السادس في حوار مع إل باييس سنة 2005).

لقد وضع جلالة الملك خارطة طريق واضحة حققت الكثير على طريق بلوغ الهدف الذي لم يتغير قط، والذي مازال قائما من أجل تقدم ورفاهية المغرب. وعلى امتداد هذا الطريق كان الأسلوب والاستراتيجية يتغيران وفق التحولات المجتمعية وتطور العالم من حولنا.

يخطو المغرب خطوات ثابتة نحو المستقبل. وبفضل الرؤية الملكية التي قادت إصلاحات سياسية ومؤسسية تم إطلاق العديد من المشاريع الرائدة اقتصاديا وتنمويا. كما أن الديبلوماسية الحكيمة لجلالة الملك جعلت للمملكة مكانة راسخة في المنتظم الدولي وأضحت شريكا موثوقا.

 

في البدء كانت الأسرة

 

على المستوى المجتمعي شكلت الدعوة الملكية للقيام باجتهادات وتعديلات في مدونة الأسرة مبادرة حقيقية لإنصاف المرأة وضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة وتعزيز مبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، والانفتاح على التطور الذي يعرفه المجتمع في تناسق مع قيم الدين الإسلامي والقيم الكونية.

تمت مباشرة أولى الإصلاحات سنة 2004 بصدور مدونة الأسرة، عقب الدعوة الملكية إلى مدونة تنصف المرأة والنساء اللواتي يشكلن أكثر من نصف سكان المغرب، غير أن هذا الإصلاح لم يتوقف عند هذا الحد، بل شكلت الدعوة الملكية الجديدة في 2022 لتدارك النواقص التي كشف عنها الزمن بتعديلات في مدونة الأسرة دعوة إلى تجديد المدونة وجعلها تواكب التحولات المجتمعية، التي باتت تقتضي اجتهادا شرعيا وقانونيا ومجتمعيا. وقد تم تحيين هذه الدعوة بعد عام برسالة ملكية إلى رئيس الحكومة من أجل تفعيل التوجيهات السامية الرامية إلى تأهيل المدونة وإصلاح الاختلالات التي أظهرها التطبيق القضائي على مدى عشرين سنة، وهو ما تم من خلال الاستجابة للمبادرة الملكية وفتح مشاورات واسعة مع كافة الشرائح المجتمعية والهيئات والمنظمات والقطاعات الحكومية ذات الصلة.

 

الإنسان قبل كل شيء

 

لأن الرأسمال البشري هو الأساس لكل نهضة، فإن جلالة الملك ما فتئ يدعو إلى الاهتمام بكل الشرائح الاجتماعية لا سيما الشابة منها، التي تعتبر عماد المستقبل وركيزته الأساسية، وذلك من خلال النهوض بالتعليم في كل مستوياته الأولية والابتدائية والثانوية والجامعية، وتعزيز تكافؤ الفرص، ودعم الفئات الهشة وتحقيق العدالة المجالية.

لقد شكل التعليم على الدوام الشغل الشاغل للنخبة الفكرية والسياسية وللمجتمع، لذلك كان جلالة الملك باستمرار سباقا إلى اقتراح العديد من المبادرات وتوجيه التعليمات إلى العناية بهذا القطاع الحيوي باعتباره المكون الأساسي للرأسمال البشري والرافد المعرفي للفئات العمرية الشابة والمدخل للحياة المهنية باعتبارها القاعدة الأساسية للاستقرار والتألق. وعلى مدى سنوات تم الانخراط في العديد من الإصلاحات من أجل مدرسة جديدة تواكب التطور المعرفي والتكنولوجي، الذي يعرفه العالم وتراعي تكافؤ الفرص وتسعى إلى تحقيق العدالة المجالية. وتم تعزيز هذا الرافد بالتكوين المهني، الذي عرف انطلاقة جديدة ومبتكرة حرص جلالة الملك شخصيا على أن تكون في مستوى التطلعات من خلال استراتيجية مدن المهن والكفاءات التي تم تقديمها لجلالة الملك سنة 2019 تنفيذا للتوجيهات السامية الداعية إلى خلق جيل جديد من مؤسسات التكوين المهني.

حزمة من الإصلاحات طالت هذين القطاعين الحيويين من أجل جعلهما القاعدة الأساسية للاستثمار في الموارد البشرية، باعتبار رأس المال البشري رافعة للتقدم وخلق الثروات، فكان تعبير جلالته دقيقا منذ أول خطاب للعرش عندما قال: «الكرامة تفتقد مع الجهل أكثر مما تفتقد مع الفقر».

 

مغربنا وطننا

 

بكثير من الحكمة والحزم دبر جلالة الملك ملف الصحراء المغربية، وقد تحلت المبادرة المغربية للحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 لإنهاء النزاع المفتعل في الصحراء بالكثير من المصداقية، الشيء الذي جعلها تحظى بتأييد ودعم واسعين من قبل المنتظم الدولي والتي يعتبرها أعضاؤه حلا جديا وواقعيا.

لقد لعبت الديبلوماسية المغربية، التي قادها جلالة الملك، بحكمة بالغة، دورا أساسيا في إقناع العديد من الدول بوجاهة المقترح المغربي، وهو ما أشار إليه جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2007 عندما قال إن الجهود الدؤوبة لدبلوماسيتنا المقدامة، عن تطور إيجابي جوهري، تجسد في تأكيد الإقرار الأممي بجدية ومصداقية مبادرتنا الشجاعة للحكم الذاتي، والدعم الدولي المتنامي لأحقية المملكة في سيادتها على صحرائها، وبعدم واقعية وهم الانفصال.

ومنذ ذلك الحين تطورت مواقف العديد من الدول لتتبنى المقترح المغربي بعد أن اقتنعت بجديته، بل تجاوزت ترددها لتعترف بالسيادة المغربية على الصحراء كما ذهبت إلى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وأكدته العديد من الدول التي سارعت إلى فتح تمثيلياتها الديبلوماسية بالأقاليم الجنوبية، بل وعبرت عن إعجابها بمستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي عرفتها المنطقة، لتصبح بعد ذلك حاضنة لمبادرات اقتصادية وتنموية كبرى أهمها المبادرة الأطلسية التي أعلن عنها جلالة الملك محمد السادس وكذا مشروع أنبوب الغاز المغرب نيجيريا.

ثم جاء الإعلان الملكي الحازم في ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 2022، عندما أكد أمام العالم أن «ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات». لقد كانت الرسالة مفهومة لدى شركاء المغرب التقليديين والجدد مفادها أن توضح موقفها بشكل لا يقبل التأويل. وكذلك كان عندما أعلنت دول وازنة على الساحة الدولية أن مخطط الحكم الذاتي هو الحل الأساس والوحيد لإنهاء ملف الصحراء.

 

الاستقرار مفتاح المستقبل

 

 الاستقرار والأمن، الذي يعيشه المغرب بفضل رجال كرسوا حياتهم للدفاع عن الوطن، مكن من إطلاق العديد من المشاريع لدعم الاقتصاد الوطني وتحقيق تنمية شاملة، وعزز ثقة الاستثمارات الأجنبية في البلاد لتدخل غمار القطاعات الحيوية على المستوى الصناعي والتجاري. كما أن المغرب سائر في تعزيز البنيات التحتية في العديد من المجالات بما يناسب حاجياته وبما يناسب التظاهرات الكبرى التي يحتضنها، وعلى رأسها مونديال 2030 الذي يتهيأ لها بثقة وحزم.

المؤسسات الساهرة على أمن وسلامة بلادنا عرفت بدورها قفزة نوعية بدخولها باكرا عهد التحديث والتطور، بفعل التوجيهات الملكية الاستباقية، وهو ما مكنها من التفاعل مع الواقع المحلي والإقليمي والدولي بحكمة وتعقل في مواجهة التحديات والتهديدات الأمنية. سمعة هذه المؤسسات باتت تسبقها في المنتظم الدولي بل صارت مرجعا وقدوة يحتذى بها.

القوات المسلحة الملكية وقطب المديرية العامة للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني والمديرية العامة للدراسات والمستندات، هي عيون المملكة وذرعها القوي ورجالها يكرسون حياتهم من أجل أمن الوطن والمواطنين.

إشعاع المملكة على المستوى القاري والإقليمي جاء كثمرة لدفاع جلالة الملك عن القارة الإفريقية، ومرافعاته في المنتظمات الدولية من أجل إنصافها والاعتراف بطاقاتها الشابة والمبدعة وإمكانياتها الهائلة، بالإضافة إلى الدفع بالتعاون جنوب ــ جنوب وبسياسة الربح المشترك إلى أقصاها من خلال مبادرات غير مسبوقة تنشد تحقيق التنمية لدى مختلف شعوب القارة السمراء كالمبادرة الأطلسية التي تسمح لعدد من الدول بالانفتاح على المحيط وكذا مشروع أنبوب الغاز المغرب نيجيريا.

الثقة، التي باتت المملكة تتمتع بها على المستوى الدولي فتحت عيون الشركاء الكبار والعديد من الدول على عدالة قضية الصحراء المغربية، وهو ما مكن من تحقيق انتصارات مهمة عجلت باعتراف عدد من هذه الدول بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا ودعم دول أخرى لمخطط الحكم الذاتي كحل وحيد وأساسي لحل هذا النزاع المفتعل.

في الذكرى 26 لتربع جلالة الملك على العرش تصدر «الأحداث المغربية»، وفي عمل توثيقي، عددا خاصا متضمنا جزءا مما راكمته مملكتنا من مكاسب على درب المزيد من التقدم بفعل العمل الجاد ومكافحة كل أشكال التزييف، التي لا يمكنها أن تبني بقدر ما تتحول إلى معاول للهدم، وهي معاول سرعان ما تنكسر أمام «المعقول»، الذي يتحلى به معظم المغاربة الذين يعون جيدا قيمة المواطنة الحقة، ومهما اختلفت مناصبهم ومسؤولياتهم لا يزيحون عن الهدف الذي حدده جلالة الملك لهذا البلد الكريم: «تقدم ورفاهية المغرب».