يشكل المعطى الديني عامل استقرار ، كما يمكنه التحول لعامل فوضى والتباس، وذلك تبعا لسياق استحضاره في عالم تتلاطمه المصالح والاصطفافات والاستخدامات المشبوهة للمفاهيم، ما جعل المملكة المغربية تحت القيادة الملكية على امتداد 26 سنة، تولي أهمية خاصة لتدبير الشأن الديني تحت عباءة إمارة المؤمنين الموكول لها حفظ "بيضة الإسلام"، وهي العبارة الجامعة المحيلة على دور المؤسسة في الحفاظ على الثوابت والأمن الروحي والاستقرار.
في الحوار التالي، نسلط الضوء مع الباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية، الدكتور هشام معتضد، الضوء على الدور المحوري الذي يمثله الأمن الروحي باعتباره عنصرا أساسيا في هندسة الاستقرار الداخلي، انطلاقا من استثمار المعطى الحضاري والتاريخي للمغرب في تقوية المؤسسات الدينية الرسمية المؤطرة للشأن الديني، إلى جانب خصائص الدبلوماسية الدينية المغربية التي اختارت استراتيجية استباقية منفتحة على عمقها الإفريقي لخلق إشعاع قاري منسجم مع المشترك الجغرافي والتاريخي، دون أن يمثل ذلك أي وصاية على الغير.
الأمن الروحي ليس مفهوماً دينياً محدوداً، بل هو بنية تحتية سيادية للتماسك الوطني والمناعة الحضارية. في السياق المغربي، يمثل الأمن الروحي صمام أمان ضد تصدير الفوضى العقائدية، وهو ما يجعل منه عنصراً أساسياً في هندسة الاستقرار الداخلي. ذلك أن اللحمة الوطنية في المغرب ليست فقط نتاجاً لمعادلات اقتصادية أو أمنية، بل هي أيضاً ثمرة لصيغة توافقية في إدارة المقدس، تنبع من إمارة المؤمنين كإطار شرعي جامع. محاولات بعض الدول لتصدير نماذجها الدينية ليست بريئة ولا معزولة عن استراتيجيات الهيمنة. فهي تستخدم الدين كأداة توسع ناعم يعيد رسم خرائط الولاء العقائدي، تمهيداً لاختراقات سياسية أو حتى أمنية.
من هذا المنظور، تصبح سيادة المغرب الروحية جزءاً من أمنه القومي. فالدفاع عن المرجعية الدينية ليس فقط دفاعاً عن الثوابت، بل هو أيضاً منع لانقسام الولاءات وتشظي الهوية. الفرق الجوهري بين المغرب وهذه القوى "المُصدِّرة" هو أن المغرب لا يحاول تسييس الدين، بل يسعى لتحصينه من الابتذال السياسي. وفي هذا السياق، يُفهم الأمن الروحي كمساحة مستقلة نسبياً، تحت رقابة مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تُعتبر فريدة في العالم الإسلامي من حيث الجمع بين المشروعية الدينية والشرعية التاريخية والدستورية
. التحصين الروحي هنا لا يمر عبر الرقابة وحدها، بل عبر بناء وعي جماعي متجذر في الخصوصية المغربية. المدارس الدينية، الإعلام الديني، المساجد، وتأهيل الأئمة، كلها أدوات ضمن بنية مؤسساتية متكاملة تؤطر الشأن الديني بعيداً عن التطرف أو الاستلاب الخارجي. هذا ما يجعل الأمن الروحي عامل إنتاج للاستقرار وليس مجرد رد فعل له
. أخيراً، ينبغي النظر إلى الأمن الروحي باعتباره مورداً استراتيجياً غير مادي. مثله مثل الماء أو الطاقة أو البيانات، هو عنصر من عناصر السيادة الوطنية في القرن الحادي والعشرين. وإذا كان البعض يسعى إلى اختراق المغرب عبر "عولمة الفتوى"، فإن المغرب يرد عبر تثبيت "وطنية المرجعية"، مما يجعل من الحفاظ على الأمن الروحي أولوية استراتيجية بامتياز.
الدبلوماسية الدينية المغربية ليست امتداداً لسلطة فوقية، بل تعبير عن مشترك حضاري وروحي عابر للحدود. نجاح المغرب في هذا المجال لا يُقاس بعدد المراكز الدينية أو عدد الأئمة المتخرجين، بل بقدرته على بناء شبكة من الثقة مع دول إفريقية ترى في المرجعية المغربية ضامناً للتوازن، لا أداة للوصاية. هذه الثقة لا تُمنح بسهولة، ولا تُشترى، بل تُكتسب عبر قرون من التفاعل الثقافي، والاحترام المتبادل، والتاريخ المشترك. الخطأ الذي وقعت فيه بعض القوى الإقليمية هو أنها تعاملت مع الدين كأداة للضغط السياسي أو كوسيلة لبسط الهيمنة الرمزية.
أما المغرب، فقد اختار أن يجعل من الدين لغة حوار لا خطاب غلبة. وهذا ما يفسر أن مقاربته لا تُخيف، لأنها لا تُصادر خصوصيات الشعوب الإفريقية، بل تنسجم مع قوامها الروحي والاجتماعي، من خلال مرجعية المالكية والتصوف السني، التي لطالما كانت جزءاً من وجدان غرب إفريقيا.
ثم إن ما يميز الدبلوماسية الدينية المغربية هو إدراكها للعلاقة المعقدة بين المقدس والسياسي. فالمغرب لا يحاول فرض نسق معين أو هندسة عقائد الآخر، بل يعرض نموذجاً منفتحاً، يكون فيه الدين عنصر تماسك لا تفتيت، وفضاء للتفاعل بين الدول لا للصراع على النفوذ.
إنها دبلوماسية تقوم على منطق التعاون لا التنافس، وعلى احترام الخصوصيات لا محوها. ومن الناحية المؤسساتية، اعتمد المغرب بنية ذكية تمزج بين العمل الرسمي والعمل الديني الأهلي: معاهد لتكوين الأئمة، ومجالس علمية مشتركة، وشراكات تعليمية، كلها تنتمي إلى منطق بناء الثقة المتبادل. هذه الأدوات لا تفرض نموذجاً مغربياً "خالصاً"، بل تقدم دعماً منهجياً يعيد التوازن للمشهد الديني في دول كانت عرضة لاختراقات متطرفة أو تأثيرات خارجية مشوشة
. بكلمة جامعة، فإن نجاح المغرب لا يكمن في "تصدير" نموذج ديني بقدر ما يكمن في "تجسيد" بديل موثوق، يجعل من الدين لغة سلام ومصدراً للاستقرار. لذلك، فإن الدبلوماسية الدينية المغربية ليست شكلاً ناعماً من الهيمنة، بل أحد أرقى أشكال القوة الناعمة السيادية.
النموذج المغربي للإسلام لا يقوم على رد الفعل تجاه التطرف، بل على بناء بنية معرفية وروحية مضادة له في الجذور. فالمغرب لم ينتظر أن يشتعل الحريق لكي يبلور أدوات إطفائه، بل بادر منذ عقود إلى هندسة رؤية دينية معتدلة تقوم على التوازن بين النص والواقع، بين العقيدة والانتماء الوطني، وبين الإيمان والمواطنة. وهو بذلك يقدم نموذجاً استباقياً، لا دفاعياً، ضد التطرف الديني. جوهر هذا النموذج يكمن في ثلاثية متماسكة: مذهب مالكي مرن، عقيدة أشعرية وسطية، وتصوف سني أخلاقي. هذه المكونات ليست مجرد اختيارات فقهية، بل هي منظومة متكاملة تُنتج شخصية دينية محصّنة ضد التشدد والغلو، وقادرة على العيش في بيئة متعددة دون السقوط في منطق الإقصاء أو التكفير.
النموذج المغربي لا يكتفي بالتحذير من العنف، بل يشتغل على بناء هوية دينية متوازنة من الأصل. أفريقيا جنوب الصحراء تعاني من هشاشة في البنية العقدية لدى بعض الفئات، ما يفتح الباب أمام كل التيارات الراديكالية العابرة للحدود. في هذا السياق، يصبح النموذج المغربي بمثابة "مصدّ معرفي" يُعيد للدين وظيفته التربوية والروحية، ويمنع تحويله إلى أداة تعبئة سياسية أو عقائدية متطرفة. كما أن النموذج المغربي يمنح الدول الإفريقية أدوات إنتاج خطاب ديني وطني مستقل، لا تابع لمراكز نفوذ خارجية.
النقطة الحاسمة في النموذج المغربي هي أنه لا يضع نفسه في موقع احتكار الحقيقة، بل يدعو إلى شراكة دينية قائمة على تقاسم القيم الجامعة. ومن خلال المؤسسات الدينية العريقة، مثل جامع القرويين ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة، ينقل المغرب خبرته لا بوصفها نموذجاً مثالياً، بل بوصفها تجربة تاريخية قابلة للتكييف مع السياقات المحلية المختلفة. أخيراً، فإن الأهم في هذا النموذج هو أنه لا يختزل الدين في الفقه ولا في الشعائر، بل يعيد إدماجه في مشروع حضاري متكامل. رؤية تجعل من الدين عاملاً لإنتاج السلام لا العنف، ومورداً للوحدة لا للتمزق، ومنصة للانفتاح لا للانغلاق. وفي قارة تتصارع فيها المرجعيات وتُستغل فيها المعتقدات، يظل النموذج المغربي بمثابة منارة اعتدال يتجه إليها الباحثون عن التوازن.