شهدت السنوات الأخيرة تصاعد نمط بالغ الخطورة يتمثل في هيمنة المصالح الأيديولوجية لجماعات إرهابية ومرتزقة على حساب المبادئ والقيم الإنسانية التي يفترض أن تشكل أساس التعايش المجتمعي والسياسي، وفي مقدمة هذه المبادئ تبرز قيمة حماية الحياة الإنسانية باعتبارها ركيزة لا يمكن التهاون معها أو إخضاعها لحسابات الصراع السياسي. ومع ذلك، أصبح واضحًا أن بعض التنظيمات تستسهل توظيف حياة المدنيين كأدوات في صراعات إقليمية ودولية، بينما تتولى قياداتها إدارة موارد ضخمة بعيدًا عن أي التزام عملي بتحسين أوضاع من تزعم تمثيلهم.
ويعد النموذج الذي تقدمه حركة حماس الإرهابية مثالًا صارخًا على هذه الإشكالية؛ إذ لم يعد شعار المقاومة مجرد إطار تعبوي يبرر استخدام القتل والاغتصاب وإزهاق الأرواح والتدمير، بل تحوّل إلى أداة لإدامة حالة من الإرهاب المستمر دون أفق واضح يحقق مصلحة الا مصلحة الذي يدعمهم. وما يضاعف خطورة هذا النموذج أن حماس تحمل فكرًا أيديولوجيًا دينيًا متطرفًا يرتبط بمشاريع توسعية إقليمية، إذ لا يمكن فصل خطابها وسلوكها عن شبكات النفوذ الإيرانية التي تدعم التنظيمات المسلحة في المنطقة، سواء في لبنان عبر حزب الله، أو في اليمن عبر جماعة الحوثي، أو في العراق عبر ميليشيات الحشد الشعبي. والمفارقة الأشد إيلامًا أن هذه الحركة وغيرها من التنظيمات المشابهة لم تكتفِ بتقديم فكرة الموت بوصفها غاية مسبقة ومنهجًا دائمًا، بل جعلت منها مشروعًا معلنًا يشرعن قتل الأبرياء تحت رايات المظلومية المزيفة والشعارات الأيديولوجية المنحرفة التي لا علاقة لها بقيمة إنسانية أو قضية عادلة. إن ما تسوّقه هذه الجماعات من شعارات دينية ظلامية ليس سوى غطاء يستبيح حياة الصغير والكبير، ويحوّل المجتمعات إلى ساحات مفتوحة للدمار، حيث لا يعلم كثير من الضحايا لماذا قُتلوا ولا كيف صارت حياتهم رهينة لمشاريع تتغذى على العنف والفوضى والتضليل.
وهكذا، لا يقتصر الخطر على الخطاب العاطفي الذي يُروّج لهذه المسارات، بل يتسع حين تجد هذه الجماعات دعمًا سياسيًا وماليًا من أطراف إقليمية ودولية استثمرت في توظيف الصراع وسيلة للضغط والتأثير. لقد تواطأت أنظمة ديكتاتورية سابقة ودول إقليمية لاحقة في تحويل هذه التنظيمات إلى أدوات نفوذ، تساهم في تقويض استقرار المنطقة تحت غطاء من الشعارات القومية أو الدينية التي لا تعكس سوى مصالح محدودة لمروّجيها.
إن ما يثير القلق أن هذه الأصوات الشريرة والشيطانية تحاول بكل وسائلها إقناع شعوبنا العربية بضرورة تأييدها والوقوف معها فيما ترتكبه من أنشطة إجرامية وتمويلها بالمال والدعم، مدعية أن ذلك واجب قومي أو التزام ديني مقدس. والحقيقة أن هذه الدعوات لا تمت بصلة لمصالحنا الوطنية ولا تنطلق من أي رؤية عقلانية تحترم سيادة دولنا ومصالحها العليا، فهي تنظيمات إرهابية تتبع دولًا إقليمية تموّلها وتوجّهها، ولا صلة لنا بها ولا بأعمالها العدوانية. وليس لها أي حق علينا كشعوب أو دول في فرض متطلباتها أو أيديولوجيتها المنحرفة، ولا تملك شرعية الوصاية على ديننا أو وطنيتنا أو انتمائنا الأصيل لدولنا أولًا وأخيرًا.
إن تأييد هذه التنظيمات وشعاراتها أو التعامل معها بأي شكل من الأشكال هو خيانة صريحة لسيادة الوطن وللانتماء الأصيل له، فهي تنظيمات إرهابية تروج لأهداف لا تخدم سوى مصالحها الضيقة ومصالح الدول الإقليمية التي تدعمها وتوجّهها، وهي مصالح لا تمت بصلة لمصالح شعوبنا ولا لقضاياها العادلة ولا لطموحاتها المشروعة في الأمن والتنمية والاستقرار.
وفي هذا السياق، يصبح واجبًا توضيح أن حماية سيادة القرار الوطني وصيانة استقلال الإرادة السياسية لأي دولة ليست خيارًا ظرفيًا، بل التزام تاريخي يفرضه احترام مصالح الشعوب وحقوقها في تقرير مصيرها بعيدًا عن ضغوط الابتزاز العاطفي أو الإعلامي. ومن الطبيعي أن يكون لكل مجتمع أولوياته ومصالحه الوطنية التي تتقدم على أي اعتبار آخر، ولا ينبغي لأي جهة أو خطاب سياسي أن يطالب الآخرين بالتخلي عن سيادتهم استجابة لتوجهات أيديولوجية لا تعبّر عنهم ولا تمثل خياراتهم الحرة.
تظل حماية سيادة القرار الوطني حقًا أصيلًا لا يقبل المساومة. ومن حق الدول والمجتمعات أن ترفض وصاية أي طرف يفرض أولوياته وأوهامه تحت ستار الدفاع عن قضايا كبرى، دون أن يقدم بدائل حقيقية تحترم كرامة الإنسان وتطلعات الشعوب في الأمن والتنمية والاستقرار.