لا يختلف اثنان على أن فنان الراب المغربي طوطو حالة فريدة في عوالم الراب المتنوعة والمتفردة، وأن هذا الفن الجديد رمز من رموز الاحتجاج الفني الذي عبر من أمريكا إلى كل بقاع العالم بما فيها مغربنا السعيد المنفتح والمتنوع، فالصورة التي ظهر فيها مغني الراب المغربي « Elgrandi Toto » على منصة السويسي العالمية خلال مهرجان موازين لهذه السنة، تفتح أمامنا إمكانيات متعددة للقراءة السيميائية التي تستنطق الجسد والرمز والسياق والخطاب، بوصفها مفاتيح لفهم تمثلات القوة والتمرد والصراع داخل الفضاء العام المغربي، وخصوصًا في لحظة متوترة بين المؤسسة السياسية الرسمية والتعبيرات الثقافية الشبابية.
أول ما يلفت الانتباه هو الجسد ليس بوصفه علامة دالة، لكن بوصفه لوحة تعبيرية مشبعة بالرموز ومثقلة بالإيحاءات، فجسد طوطو هنا ليس محايدا أبدا، بل هو متورط في سردية احتجاجية بامتياز: الشعر المصبوغ بالأحمر، الوشوم، السلاسل الثقيلة حول العنق، طريقة الإمساك بالميكروفون، كلها ليست مجرد تفاصيل جمالية بل تمثيلات رمزية للتمرد، للفوضى، ولرفض السلطة بصيغها الرمزية أو الوصاية بتعبير أدق، سواء كانت دينية، أخلاقية أو سياسية. إذ أصبح الجسد هنا منصة احتجاج موازية لمنصة الغناء، موجهة للجمهور كما للمؤسسات .
العلامة الأكثر شحنة في هذا السياق، هي الكلمة المكتوبة على صدر قميصه: "SAL GAOT". وهي العبارة التي وردت في الخطاب الهجومي الشهير لعبد الإله بن كيران، حين وصف هذا الفنان، في لحظة من الغضب السياسي، بهذا الوصف القاسي: "سال گروص"، أي "القذر السمين" بلغة هجينة بين الفرنسية والدارجة المغربية. وقد اختار طوطو أن يعيد إنتاج هذه العبارة، لا ليمحوها أو يعتذر عنها فحسب، بل ليجعل منها شعارا مدويا، ورسما دالا لهويته الفنية، مطبوعا على صدره بدون أي مركب نقص، وفي قلب الأداء الغنائي التربوي، وكأن لسان حاله يقول: أنا ما تسخرون به، لكنني أمتلك قوة إعادة توجيه السخرية نحوكم.
لقد انتظر طوطو طويلاً هذا الرد، فجاء رده مزلزلاً، فنيًّا، وذكيًّا، فوق واحدة من أضخم المنصات الفنية في إفريقيا، أمام جمهور غفير يفوق بكثير أتباع بن كيران، وأمام عدسات الإعلام الفني الدولي.
بهذا الرد، لم يرد طوطو على بن كيران فقط، بل تفوّق عليه. لم ينزل إلى مستواه الخطابي، بل ارتقى بموقع الرد إلى منصة عالمية اسمها "السويسي"، غنى فيها أمام حشود توازي في رمزيتها رفضا جماعيا للصوت المحافظ، وانحيازا واضحا لفن تمردي بامتياز، يتجاوز الإدانة الأخلاقية ويصوغ لنفسه شرعية جماهيرية مبهرة. فجمهور طوطو، من حيث العدد والدلالة، يبدو أوسع وأكثر تاثيرا من جمهور بن كيران، وهذا ما يُشعر المؤسسة المحافظة بقلق وجودي عميق.
من زاوية سيميائية أخرى أعمق، يمكن قراءة هذا التوتر بين مغني الراب والسياسي المحافظ بوصفه تجليا حرا لصراع الهويات داخل المجتمع المغربي: هوية محافظة تستند إلى الضبط والخطاب الديني، في مقابل هوية شبابية هجينة تحتفي بالتمرد والفردانية واللغة المتداولة عالميا. طوطو، بهذه القراءة، ليس مجرد فنان راب وفقط، إنه بحق، حامل لخطاب ثقافي كامل، يتحدى مفهوم "الأخلاق العمومية" كما يحدده الفاعلون السياسيون، ويقترح "أخلاقا شعبية" جديدة قوامها الصراحة، التعبير الحر، والاحتفاء بالهامش. وفوق ذلك، فإنه – رغم كل الشحنات السلبية التي أُلصقت به – انتصر لقيم الحب والوفاء حين استدعى زوجته وابنه إلى المسرح، في مشهد إنساني عميق، ليقول للجميع إن لا نجاح بدون حب، ولا معنى للنجومية إذا لم تتأسس على روابط حقيقية.
إن فن الراب، في بعده الجمالي والسياسي، هو فن احتجاجي بامتياز، لأنه صرخة ضد الظلام، وضد الهيمنة، وضد الإسلام السياسي الذي حول الدين إلى خطاب سلطوي زاجر. طوطو لا يغني فقط، بل يقاوم ويعرّي ويحرج ويخترق أكثر ممن تواروا للخلف. وإذا كانت لغته تحمل ألفاظا "سوقية"، فإن ذلك ليس شذوذا عن الواقع، بل انعكاس صادق لثقافة شفهية نعيشها ونرددها، حتى وإن حاولنا تجميلها في المحافل الرسمية. نعم، لغته بذيئة، لكنها ليست دخيلة علينا، بل تسكن شوارعنا وأحياءنا ونكاتنا اليومية. طوطو لم يخترع البذاءة، بل فقط وضعها في المايكروفون، وفضح النفاق الجماعي في التعامل معها.
إن هذه الصورة، بتكثيفها للعديد من العلامات (اللفظية والبصرية والجسدية)، ليست لحظة فنية فحسب، بل وثيقة سياسية/ثقافية تسائل حدود السلطة الرمزية، وتعيد تشكيل معاني التقدير والاحتقار، عبر آلية قلب المعنى، وتحويل الشتيمة إلى قوة رمزية. إنها بمثابة صورة تقول الكثير عن اللحظة المغربية الراهنة، حيث تتحول الخشبة إلى منبر مقاومة، وتغدو الكلمة المرفوضة شعارا يُكتب على الصدر بدل أن يُحذف من الخطاب. طوطو لم ينتصر فقط على بنكيران، بل انتصر لذاته، لجمهوره، ولجيل بكامله، ولي أيضا، أنا اليسارية الحالمة بغد متحرر متنور ومنفتح.
دة إيمان الرازي أستاذة جامعية وفاعلة سياسية ونقابية.