ما أقصر المسافة بين رجل الدولة ومهرّج السياسة حين يسقط القناع، ويتحول الكلام من منبر المسؤولية إلى منبر التهريج الصفيق. ذلك ما يفعله عبد الإله بنكيران، في كل مرة، ولا يمل، حين يجرّ خطاب السياسة المغربية إلى درك سحيق من التسفيه والابتذال، مرددا عبارة "الحشرات" في وجه من تجرؤوا على مساءلته حول تمجيده للنظام الإيراني في صراعه الأخير مع إسرائيل والولايات المتحدة، لأن من وصفه بـ"ابن إيران" لم يُخطئ التوصيف، لا من باب النَسب السياسي ولا من زاوية التماهي الإيديولوجي، بل لأن الرجل يعيد إنتاج أبجديات التخوين التي طالما أتقنتها الدعاية الصفوية. وأن الأمر هو سقوط مدوٍ لمن ادعى يوما أنه جاء ليعيد للسياسة معناها النبيل، فإذا به يردّ على النقد لا بالحجة، بل بالشتم والهمز واللمز، من موقع استعلائي يفتقر حتى للحدّ الأدنى من أدب الحوار الذي كان يدعي التزامه باسم "المرجعية الإسلامية".

هكذا يُصبح رئيس حكومتنا السابق بنكيران، وهو يصرخ كالوعيد في الساحات واللقاءات، كصورة كاريكاتورية لما كان يدّعي تمثيله، من رجل الدولة إلى كائن هجين، يُدار بآليات ما بعد السياسة، حيث العاطفة الرعناء تحلّ محل العقل، والانفعال يتجاوز النقاش، والتهكم يصبح بديلا عن التحليل. فأن تنعت خصومك بالحشرات لأنهم خالفوك الرأي، فذلك لا يُسقطهم، سيدي الرئيس، بل يُسقطك أخلاقيا وسياسيا في الآن ذاته، لأن الشتيمة ليست موقفا، لكنها ذروة العجز. والشتم لا يُقنع، بل يُنفّر. وكأنه لا يكتفي بأن يكون قد خرج من الباب الصغير، بل يسعى لتلويث الجدار الأخير لذاكرته لدى الناس، وهو يمعن في خرق السقف الأخلاقي للمشهد السياسي المغربي.

ثم إن موقفه من إيران لا يثير فقط السخرية، بل أيضا القلق. فأن يدافع زعيم سياسي سابق عن نظام الملالي باسم "الممانعة"، من دون أن ينبس ببنت شفة حول سجل طهران الدموي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، هو أمر لا يندرج ضمن حرية التعبير، بل هو شكل من أشكال التواطؤ السياسي مع جرائم الحرب الإيرانية متناسيا أن الممانعة التي تنتهي إلى طائفية دموية ليست ممانعة، ولكنها تغوّل ديني مقنّع.

لقد كانت إيران، حين كان بنكيران رئيسا للحكومة، أحد مصادر القلق التي أعلن عنها مراراً المتحدثون الرسميون المغاربة. فكيف نفسر هذا التحول إلا بكونه جزءا من ازدواجية مفضوحة يتقنها الرجل حين يريد أن يغازل جمهورا مغيّبا، أو يعوض خسائره الرمزية بالاستنجاد بـ"عدوّ مشترك" يمنحه موقع البطولة الزائف؟

وما الذي تبقى لبنكيران من إرثه سوى ضجيج أراد به ستر العجز؟ الرجل الذي خضع للوبيات المحروقات ولم يجرؤ حتى على تسمية المتورطين، يريد اليوم أن ينصب نفسه خطيبا في الشأن الجيوسياسي، ناسيا أن المقاومة الحقة تبدأ من مقاومة الريع، لا من تمجيد الأنظمة القمعية. وأن من لم يقاوم فساد "شركاته القريبة"، لا يحق له أن يدافع عن "حق الشعوب"، لأنه لا يملك شرعية الفعل حتى على مستوى وطنه.

إننا لا نكتب فقط من باب الرد، بل من باب المسؤولية الأخلاقية تجاه الذاكرة الوطنية. بنكيران ليس مجرد شخص، بل حالة. حالة من الابتذال السياسي الذي حوّل الدولة إلى ملهاة، والمؤسسات إلى أبواق، والدين إلى مطية. وحين نسكت عن الشتيمة، فإننا نترك المجال مفتوحاً لمزيد من العبث بالوعي العام، وهذا ما لا يجب أن يحدث. فحين تصبح الحشرة وصفا سياسيا، يجب أن نُذكّر من يتلفظ به بأن السياسة ليست حديقة خلفية للتهريج، بل هي مساحة مشتركة تقوم على النقاش والعقل والمصلحة العامة. أما من يكتفي بالسخرية، فمكانه الطبيعي خارج منطق الدولة، وربما في خانة المخلوقات الرمزية التي تسكن خطاباتها ولا تجد لها اسما في الواقع.

إن بنكيران، وهو ينحدر بهذا الشكل، يُعيدنا إلى مهمة لا تزال تنتظر القوى الحية، بكل ما تمثله من تاريخ وأفكار، وهي مهمة إعادة الاعتبار للسياسة باعتبارها فضاء للنزاهة الفكرية، وملتقى للنقد العميق لا لتصريف الأحقاد والانفعالات. لقد دافعت هذه التوجهات الفكرية الحداثية الديموقراطية عن الحق في التعبير والاختلاف، وعن الانتصار للعقلانية في الفعل السياسي. واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يتعين عليها أن تنهض من سباتها، لا لتعارك بنكيران، فذلك شرف لا يستحقه، بل لتعيد بناء الوعي السياسي الجماعي على أسس الحوار والديمقراطية والكرامة. أما الشتيمة، فدعوها لأهلها.

ولبنكيران نقول: لا ترفع صوتك، فالصراخ لا يصنع الحقيقة، بل يكشف خواء صاحبه. لقد سقط قناعك منذ زمن ليس بالبعيد ، ولم تعد صيغتك القديمة تصلح حتى للتسويق، أما الدرس الوحيد الذي يمكن أن يستفاد من مشهدك الأخير، فهو أن من يتخلى عن المبادئ، ولو باسم "المرجعية"، ينتهي دائما في أحضان العبث.

فما أشد ضحالة الخطاب حين يتنكّر صاحبه لمقام رجل الدولة، لتحوله عدالة التاريخ بمسخه "الكافكاوي" إلى حيوان شبه سياسي بلسان صعلوك متعجرف، يستدعي مفردات "الحشرات" في سجال فكريّ حول موقع إيران من الصراع. بنكيران، الذي اعتاد تقمّص دور الحَكَم والمظلوم معاً، يبدو اليوم مستظهرا عقدةً تجاه كل من يجرؤ على مساءلته بعد أن كان مستبطنا لها على نهج " التقية" كما هي في أسلوب عمائم الإثني عشرية. الرجل -إن صح وصفه بذلك- بات يتلبس ذات القداسة الإلهية المتسامية عن كل نقد، منزلقا إلى خطاب استعلائي يمتح من قاموس الشتم لا من منطق الحجة، رافعا عقيرته بالصراخ والتنابز بالألقاب، ومتحللا من مدرسة الشمائل المحمدية التي لطالما أجاد تقمصها على المغرر بهم.

وحين ينعت بنكيران منتقديه بـ"الحشرات"، فإنه يوقع نفسه في مرآة رمزية معكوسة: فالحشرة، في جوهرها، كائن صغير لا يُرى، كثير الصراخ، سريع الحركة بين القمامة السياسية التي حملته ومن معه إلى مزابل التاريخ. فهل يحتاج العاقل أن يجهد ليفهم من الذي يتطابق والوصف؟ إن من كانت حجته الشتيمة، وسلاحه التشهير، لا يليق به إلا أن يُردّ عليه بالصمت المُحتقر، لكن حرصاً على سلامة الذاكرة الوطنية، نذكّره: من ابتذل الدين في السياسة، لا يملك شرعية الكلام ولو همسا، فكيف بالكلام جهرا.

وسلام على وطن ينهض كلما سقطت عنه الأقنعة.

* أستاذة جامعية وفاعلة سياسية ونقابية.