تمثل شهادة البكالوريا في الوجدان المدرسي والاجتماعي المغربي أكثر من مجرد امتحان لنهاية التعليم الثانوي، إنها عبور رمزي من مرحلة المراهقة إلى عتبة النضج، أي من وضع التلميذ إلى حلم الطالب، ومن كنف المؤسسة التعليمية إلى بوابة المجتمع الأوسع. إنها محطة تحمّل عند الكثيرين معاني النجاح الشخصي، والانتماء الاجتماعي، وحتى الكفاءة الوجودية. فكل من يجتازها كأنما يُمنح "تأشيرة" عبور نحو المستقبل، بينما من يفشل فيها يظل رهينا في نفق الأسئلة المؤلمة. غير أن هذا الامتحان الذي يحمل في طياته رهانات فردية وجماعية، يتحول إلى مفترق مصيري لا يُبقي ولا يذر عندما يكون المعني به أحد أبناء الخيريات. إذ سرعان ما تتغير دلالته من لحظة رمزية إلى رصاصة قاتلة، أو حكما بالتيه. فالتلميذ الناجح يُخرج من المؤسسة الاجتماعية كمن أدى مهمته، ويُترك لمصيره دون مواكبة أحيانا، فيما الفاشل يُنبذ بطريقة أكثر وحشية، ويُقذف به إلى الشارع كأن لا أحد رآه أو سمعه من قبل. هكذا ينكشف عمق الأزمة، وتُفضح المنظومة التي جعلت من النجاح مدخلاً للطرد، ومن الفشل مدخلاً للتشرد، بدل أن تكون سنداً في الحالتين.
من وجهة نظر سوسيو تربوية، تنتمي هذه الفئة إلى هامش النظام الاجتماعي، وتعيش داخل مؤسسات الرعاية التي تأسست أصلاً كحل مؤقت لمعضلات الطفولة المتخلى عنها أو غير المحظوظة أسرياً. غير أن المفارقة تظهر حين تتحول هذه المؤسسات من فضاء للرعاية إلى فضاء مؤقت محكوم بشروط قاسية: كأن الرعاية لا تستند إلى مبدأ المواطنة أو الحقوق، بل إلى مبدأ الجدوى الزمنية. فبمجرد أن يبلغ الطفل سن الرشد القانوني، أو مرحلة البكالوريا، تبدأ الآلة البيروقراطية في الدفع به خارج المؤسسة، دونما اعتبار لما يحتاجه من تأطير نفسي أو دعم اجتماعي أو مواكبة اقتصادية. النتيجة هنا أن النجاح لا يُكافأ بالدعم، بل بالطرد، وكأن رسالة المؤسسة هي: لقد انتهت مهمتنا، دبر أمرك وحدك.
لابد هنا من وقفة مساءلة سيكولوجية لحجم الأثر المدمر لمثل هذه السياسات على الهوية الفردية. فالطفل الذي نشأ داخل مؤسسة، دون روابط عائلية حقيقية، يكوّن هويته في علاقة وثيقة مع الجماعة المؤطرة له. هو لا يرى المؤسسة فقط كفضاء مادي بل كبيت، كحاضنة عاطفية ورمزية. وبالتالي، فإن إخراجه منها بشكل مفاجئ، سواء بعد النجاح أو السقوط، يُحدث شرخاً وجودياً عميقاً. هنا يشعر الطفل وكأنه أُجهض من رحم الأم البديلة، ودون سابق إنذار، ليجد نفسه عارياً أمام عالم لا يعرفه، ولا يملك أدوات الاندماج فيه. وأن نجاحه المدرسي لا يكفيه نفسياً ولا مادياً لبناء حياة مستقلة، بل يصبح عبئاً إضافياً، لأنه لا يتوفر على شبكة دعم خارجية، ولا على موارد لبدء حياة جامعية أو مهنية جديدة.
أما من لم ينجح، فيجد نفسه في الجحيم، لأنه خسر رهان المدرسة وخسر سند المؤسسة، في الآن ذاته. هذا الفشل المدرسي، الذي قد يكون مؤقتاً أو ناتجاً عن ظروف تراكمية، يُترجم مباشرة إلى طرد من الخيريات بعد استكمال السن القانون للبقاء فيها، ومن الفضاء الوحيد الذي يعرفه، فيجد نفسه في العراء، دون بيت أو دعم أو فرصة ثانية. من هنا يبدأ التدمير النفسي: مشاعر الذنب، الفشل، الدونية، الإحساس بعدم الجدارة، كلها تنفجر دفعة في دكة واحدة، فيؤدي ذلك في حالات كثيرة إلى الانحراف أو الانتحار الرمزي أو الوقوع في براثن الجريمة أو الاستغلال والاتجار بالبشر.
هذا الوضع القاهر هو مؤشر على فشل السياسات الاجتماعية في بناء نموذج عادل وشامل للرعاية. فلا يجب التعامل مع أبناء الخيريات بمنطق "المهمة المؤقتة"، بل بمنطق المواكبة طويلة الأمد. إذ تكاد تغيب مشاريع الإدماج، التكوين، السكن، التأهيل النفسي، والمرافقة الجامعية أو المهنية. وكأن الطفل الذي كبر في الخيرية لم يكن يوماً مسؤولية مشتركة للمجتمع، بل حالة طارئة يجب التخلص منها عند أول منعطف. والأسوأ أن هذا التعامل يكرس نفسياً لدى الفرد شعوراً عميقاً بأنه طارئ، غير مرغوب فيه، خارج التاريخ، وخارج الجماعة الوطنية.
ولأن السوسيولوجيا تعلمنا أن المجتمع لا يُقاس فقط بقوة نخبه أو مؤسساته، بل بطريقة تعامله مع أضعف حلقاته، فإن هذه المفارقة المأساوية في مصير أبناء الخيريات تعكس صورة من التصدع الأخلاقي داخل المنظومة الاجتماعية. هل يجوز أن يتحول النجاح إلى ورقة طرد؟ وهل من المقبول أن يصير الفشل المدرسي عقوبة مزدوجة تنتهي بالتشرد؟ أليس من الأجدر بالدولة، بدل أن تُنهي علاقتها بالطفل عند سن البكالوريا، أن تسهر على تطوير برامج احتضان جديدة ودعم مؤسسات المجتمع المدني الجادة المهتمة بهذه الفئة من الشباب، وتستمر إلى ما بعد هذه المرحلة الحرجة؟ أليس من أولى أولويات العدالة الاجتماعية أن تضمن لهؤلاء الحد الأدنى من الاستقرار النفسي والاجتماعي كي يستطيعوا فعلاً بدء حياة جديدة؟
إننا أمام أزمة مزدوجة: أزمة في مفهوم الرعاية، وأزمة في مفهوم النجاح. والمطلوب اليوم هو إصلاح جذري لمنظومة الخيريات، يستند إلى رؤية إنسانية شاملة، لا تختزل الطفل في إمكانيته المدرسية، بل ترافقه في بناء هويته، وتمنحه الأدوات الحقيقية للاندماج. هؤلاء الشباب ليسوا فائضاً مجتمعياً، بل كنزاً بشرياً مهدوراً. ومتى أدرك الفاعل السياسي أن الرعاية ليست مرحلة، بل مسار، وأن النجاح لا يعني الطرد بل يستحق الاحتضان، حينها فقط سنعيد الاعتبار لأبناء الخيريات بوصفهم جزءاً من مستقبل هذا الوطن، لا مجرد هامش قابل للإقصاء أو حتى رقم صفر على الشمال.