في سجل الرجال الذين نذروا أنفسهم لخدمة الوطن والدين، يسطع نجم فريد يختصر في مسيرته معاني النضال، والتجرد، والتفاني، والعلم، والسياسة، والتربية... إنه مولاي مصطفى بن أحمد العلوي، الشريف الحسني، العالم المجاهد، والسياسي المتبصر، والمربي الذي زرع الوعي الوطني في العقول والقلوب، فظل، حتى آخر لحظة من حياته، حارساً لثوابت الأمة، ومرجعاً في الوطنية الصادقة والإسلام الوسطي.

من تافيلالت إلى القرويين: بدايات عالم رباني

وُلد مولاي مصطفى العلوي سنة 1912 بمدغرة بإقليم الرشيدية، متحدّراً من نسب شريف يتصل مباشرة بمؤسس الدولة العلوية مولاي علي الشريف. حفظ القرآن الكريم صغيراً، وتلقى علوم العربية والفقه على يد والده وشيوخ الواحة، قبل أن يشد الرحال إلى جامعة القرويين سنة 1931، في مرحلة مبكرة من التنظيم الرسمي لهذا الصرح العلمي. هناك نهل من ينابيع العلم والمعرفة، ليعود بعدها إلى الميدان معلّماً ومرشداً.

مقاوم بالقلم والسجن والنفي

لم يكن للعلم أن يثني الرجل عن واجبه الوطني. في سنة 1937، أسّس مدرسة حرة في بركنت – عين بني مطهر، ليصبح هدفاً لسلطات الحماية الفرنسية التي نفته من الإقليم، واعتقلته لاحقاً في الرشيدية، ثم سجنته مع الأشغال الشاقة في كلميمة، حيث حضر وفاة المناضل الشهيد محمد القري، كما نقل ذلك المؤرخ محمد إبراهيم الكتاني. في سنة 1940، عاد إلى القرويين، وتوّج مساره العلمي بالحصول على شهادة العالمية سنة 1945.

المربي الكبير وصانع الأجيال

عُيّن من طرف جلالة الملك محمد الخامس مديراً لمدرسة النهضة الإسلامية بمكناس، ومنها انطلق في تأسيس عدد من المدارس في الأطلس المتوسط: آزرو، ميدلت، عين اللوم، واتزر... لم يكن المربي يزرع فقط الحروف والمعارف، بل كان يغرس في النفوس حب الوطن والاعتزاز بالهوية. شارك في تحقيق كتاب "الدرر البهية والجواهر النبوية" للعلامة مولاي إدريس الفضيلي، ومارس التعليم والتأطير في البيضاء، وجاب مدارس المحمدية، عبد الكريم لحلو، والحسنية.

سياسي في قلب الدولة الوطنية

مع بزوغ فجر الاستقلال، عاد مولاي مصطفى إلى مدرسة النهضة، وفي سنة 1957 عُيّن مديراً لجريدة "العهد الجديد". في 1959، كُلف برئاسة مديرية الصحراء وموريتانيا بوزارة الداخلية، ثم مديراً للقسم السياسي فيها. انتُخب نائباً برلمانياً عن حوض أغريس بين 1963 و1965. لاحقاً، أسندت إليه مهام جسيمة، منها إدارة دار الحديث الحسنية (1966-1977)، ومدير ديوان وزير الأوقاف، ومستشاراً، ثم رئيساً للمجلس العلمي بمكناس، فـرئيساً لرابطة علماء المغرب والسنغال.

العالِم الموسوعي: بين الفقه والإعلام والدعوة

لم يكن مولاي مصطفى مجرد إداري أو سياسي، بل كان عالماً موسوعياً ترك بصمات ذهبية في التحقيق العلمي والدعوة والإرشاد. حقق جزأين من "التمهيد" لابن عبد البر، وكتب للإذاعة تفسيراً لعدد من أجزاء القرآن، كما شارك في برامج شهيرة: حديث الصائم، ركن المفتي، هدي ورشاد، وغيرها. ألقى مئات الخطب، وكتب مقالات في مجلات بارزة مثل "دعوة الحق" و"النشرة الدورية لدار الحديث الحسنية".

الوجه الدولي: سفير العلم المغربي للعالم

زار فرنسا، ألمانيا، هولندا، والصين، وشارك في مؤتمرات علمية في الجزائر، تونس، ليبيا، القاهرة، الإمارات، الأردن، العراق... كما كان عضواً في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وخبيراً لعدة سنوات في مجمع الفقه الإسلامي بجدة، حاملاً معه رسالة العلم المغربي الوسطي المعتدل في مواجهة تيارات التطرف والتشكيك.

حارس الهوية ومقاوم الاستعمار الفكري

في مواجهة المخططات الفرنسية لطمس الهوية المغربية، كان من العلماء الذين تصدوا بوعي وثبات. أدرك خطورة "الظهير البربري" سنة 1930، وتبنّى خيار المقاومة الفكرية والعلمية، مثل زملائه الكبار: عبد الله كنون، المختار السوسي، محمد بن عبد الهادي المنوني وغيرهم. فأعاد للتراث المغربي الأندلسي مكانته، وواجه محاولات طمسه بعقل ناقد ولسان صادع.

صفات لا تغيب عن ذاكرة المغاربة

كان رجلاً اجتماعياً بطبعه، فصيح اللسان، كريم اليد، حاضر النكتة، بشوش الوجه، صارماً في الحق، صريحاً في النصيحة، مهاباً عند الخاص والعام. عاش في كنف ثلاثة ملوك: محمد الخامس، الحسن الثاني، ومحمد السادس، وخلّف أثراً لا يزول، وشخصية يفتخر بها المغاربة جيلاً بعد جيل.

في رحيل الكبار... تبكي الأمة وتخلّد التاريخ

توفي العلامة مولاي مصطفى بن أحمد العلوي يوم 11 ماي 2007 بالرباط، لكن فكره وسيرته لا يزالان منارات تضيء طريق العلماء والمربين والسياسيين. وقد عبّر جلالة الملك محمد السادس عن حزنه في برقية تعزية مؤثرة، جاء فيها:

"كان الفقيد رحمه الله مثالاً للعلماء المغاربة الذين جمعوا بين تجسيد الإسلام الوسطي والمذهب المالكي المنفتح، وبين الوطنية الصامدة في وجه كل التحديات".

إرث لا يموت

إن الحديث عن مولاي مصطفى العلوي هو حديث عن ذاكرة أمة، عن رجل تتقاطع في مسيرته العروبة والإسلام، الوطن والملك، المدرسة والمنبر، السجن والمنفى، القلم والسيف. هو واحد من الذين صنعوا مجد المغرب الحديث، ووهبوا أعمارهم ليظل هذا الوطن شامخاً، قوياً، وفياً لهويته، ودينه، وتاريخه.

494578469_9839988369421357_5414357004839172197_n
494578469_9839988369421357_5414357004839172197_n
494571208_1380784719823841_8385145070874799036_n
494576515_1251823826658919_1149735843967157981_n
494574167_1363883751579838_4276013002765567487_n
494822026_681679527807192_3785758593634548460_n
494821053_1913829709370742_4673993308621303125_n
494570385_1445076640267810_9219148437374588136_n
494575656_1744954193064928_8246270290742635100_n
494572285_1244622153740201_5199842082235706710_n
494817614_1027992526149646_8249370432362009851_n