في الآونة الأخيرة كثر النقاش حول الصحافة الوطنية: أدوارها وصراعاتها وتمويلها، وهي نقاشات وإن كانت على العموم مفيدة، ما دامت مرتبطة بواحدة من الآليات التي يفترض أن لها وظائف إخبارية وتنويرية تساعد في تطوير النقاش العموم، ومن ثم المساهمة في توطيد أسس ديموقراطية صاعدة، إلا أنها للأسف ارتهنت إلى تغليب مساحات الحسابات الشخصية/ المشخصنة، أو إلى التشكيك في مقاولات مهنية تقاوم بشكل يومي من أجل البقاء، وتأمين فرض شغل قارة.
غير أن السؤال الذي يجب أن يطرح اليوم بشكل مستعجل هو: هل تمتلك المقاولات الصحافية التي رغم أن أغلبها محسوبة على القطاع الخاص، إلا أنها تقدم خدمة عمومية، هل تمتلك مقومات البقاء والاستمرارية؟
إن وضع الصحافة المكتوبة الورقية لا يسر من تربى وعيه السياسي والمعرفي بمرافقة العناوين التي كانت تؤثث الأكشاك، ورغم أن الكثيرين تنبأوا باندثار زمن الصحافة الورقية باعتبار عدم قدرتها على مجاراة التطورات الرقمية المتسارعة، والتي تخدم سرعة انتشار ووصول الأخبار، فإن العارفين بعواقب هذه التكنولوجيات الحديثة نفسها، يعتبرون أن ثمة أدوارا مطلوبة في الصحافة لا يمكن أن تقوم بها سوى الصحافة المكتوبة الورقية، إذ إن هوامش التحقق من صدقية الخبر قبل نشره تظل واسعة عندها، كما أنها الأقدر في الظروف الحالية على المحافظة على أنواع صحافية تكافح للبقاء في ظل الرقمنة التي تراهن على المادة سريعة الإنتاج وسريعة الاستهلاك في الوقت نفسه، ومن هذه الأنواع على سبيل المثال لا الحصر: الحوارات المطولة، الاستقصاء، التحليل، الملفات الموضوعاتية،،
وهذا ما جعل بلدانا متطورة تسن قوانين للحفاظ على الصحافة المكتوبة من قبيل فرنسا وإنجلترا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث إضافة إلى الدعم المالي العمومي، والتحفيزات الضريبية التي تصل حدود الإلغاء، يفرض القانون على كل المؤسسات والشركات العمومية نشر إعلاناتها في الصحف الورقية وبأسعار تفضيلية مقارنة مع الإعلانات في باقي الوسائط.
وهذا لا يعني أن واقع الصحافة المكتوبة الرقمية أفضل حالا، ذلك أنها تعاني من منافسة غير متكافئة إن لم نقل غير شريفة من طرف الشركات الكبرى المحتكرة للبث في المنصات الرقمية ( غافام: غوغل/ آبل/ فيسبوك / أمازون / مايكروسوفت)، والتي تستحوذ على أكثر من 80 في المئة من سوق الإشهار، وهو الأمر الذي سبب ضررا على مستوى أكبر مصدر لتمويل المقاولات الصحافية، ونعني به الإشهار، في ظل رهان المواقع الصحافية على المجانية.
وإذا كانت بعض التجارب محليا حاولت اللجوء إلى الدفع المسبق من أجل ولوج المواد المنشورة في الموقع الإلكتروني، كما هو في مجموعة من التجارب العالمية الناجحة لحد الأن، إلا أن نتائج ذلك في المغرب تظل محدودة، في ظل انحسار عدد القراء المستعدين للدفع من أجل المساهمة في استمرارية موقع إلكتروني، مع وجود إمكانيات للاطلاع على نفس المادة بطرق مختلفة.
إننا أمام وضع خطير، فمن جهة تتراجع قدرة المقاولات الصحافية على الصمود في وجه منصات البث الرقمي (الاجتماعية منها أساسا)، وتتراجع مداخيلها الإشهارية، ومن جهة أخرى وكنتيجة لذلك تتراجع قدرتها على مواجهة التضليل والأخبار الكاذبة باعتبار قوة السوشل ميديا وجاذبيتها، والتي إن سمحت بتوسع هوامش حرية التعبير، إلا أنها أصبحت مساحات لاقتراف الأكاذيب والتضليل والوصم والعنصرية والدعوة للعنف، ومخاصمة العقل، ونشر القيم السلبية.
على انه لا يجب تحميل المسؤولية لهذه الوسائط الرقمية الاجتماعية الجديدة فقط، والتي تسع للربح في ظل منافسة شرسة بين أقطابها، تتجعلهاتزيد في جرعات التوحش الرقمي، والتنصل من الالتزامات القيمية، والرهان على الإثارة حتى الغرائزية منها، بل ثمة مسؤولية يتحملها كذلك أهل الميدان من الإعلاميين ناشرين وصحافيين، وتتحملها كذلك الحكومة، ويتحملها المجتمع.
إن أهل الدار يجب أن يتداعوا في أقرب فرصة لمناظرة وطنية تجيب على سؤال: كيف يمكن للصحافة الوطنية أن تستمر في تقديم خدمة عمومية باحترافية ومهنية، وبمراعاة لأخلاقيات المهنة وسط كل هذه التحديات؟، عوض الانشغال بصراعات ثانوية.
كما أن الحكومة وخلفها كل مؤسسات الدولة المعنية يجب أن تعي أن إنقاذ الإعلام الوطني هو أولوية وطنية لا تقل أهمية عن إصلاح التعليم، والتخفيف من معضلة البطالة، ذلك أن تخلف الإعلام له انعكاسات خطيرة على المصالح الوطنية الكبرى، بما فيها الدبلوماسية والاقتصادية، كما لها انعكاسات سلبية على المجتمع في ظل الانتقال السريع نحو مجتمع المعلوميات والمعرفة.
وإذا كان الإعلام في أوروبا وأمريكا يجد احتضانا من داخل المجتمع، بدليل نجاح التجارب الرقمية ذات نظام الدفع المسبق، وبدليل استمرار الصحافة الورقية في الحفاظ على معدلات من الاقتناء والمقروئية كافية للاستمرار، فإنه يصعب أن نتصور احتضانا مجتمعيا للإعلام لأسباب كثيرة معروفة، لكننا يمكن أن نصل لذلك يوم يرقى الإعلام الوطني إلى مستوى انتظارات المتلقين، بحيث يقدم خدمة تعفي ولو نسبيا من متابعة الإعلام الخارجي ومن البحث عن الخبر في السوشل ميديا.