الغائب الأكبر اليوم في الساحة العمومية هو نقاش حقيقي بيننا، حول كل المواضيع.
من فلسطين حتى المالكي، ومن ريال مدريد حتى النجم الشعبي، ومن مدونة الأسرة حتى الجفاف، ومن صحافة الزمن القديم حتى صحافة «التنوعير»، ومن البرلمان حتى مجالسنا الجماعية، ومن عيد الأضحى حتى «مولات العشعوش»، ومن توحيد خطبة الجمعة إلى تشجيع الشباب على الخطبة خوفا من عنوسة الجميع، وصلنا الآن إلى مرحلة عدم قدرتنا جميعا على الإنصات للآخر، كيفما كان نوعه، وحول وفي أي موضوع كان.
لا أحد يناقش أحدا. الكل يتحدث، ولا إنصات، وفي حالة تبادل الحديث بين المختلفين حول موضوع ما، يكون السبيل هو «المعاطية»، أو «تقطار الشمع»، أو «حشيان المعاني».
فقط لا غير.
أما نقاش الفكرة بالفكرة المعارضة لها، فأمر دونه الموت حقا.
وأما الرد على الرأي بالرأي الآخر فعلا، فمسألة مستحيلة مع العرض المتوفر اليوم في سوق الكلام.
وهذه الملاحظة لا تسري على مجال السياسة وحده، بل على كل الميادين: من الكرة التي يصل الاختلاف حول فرقها حد التهديد بالقتل، إلى الأغاني التي ينقسم حولها الناس إلى فسطاطين، مرورا بكل طارئ اجتماعي كبير مثل مدونة الأسرة، أو صغير مثل أي حدث متفرق عاشته مدينة أو قرية ما.
التخندق، والاصطفاف، والجلوس في المدرج (الفيراج) الذي بجلس فيه الأنصار، ومن يقولون لنا «آمين»، في مواجهة المدرج الآخر، مدرج «الألتراس» المعارضة، والشروع في ترديد شعارات النيل من الجهة الأخرى، وترديد الأغاني الحماسية من الجانبين، والسلام.
متى أضعنا القدرة على الحديث مع بعضنا رغم كل الاختلافات؟
منذ أصبح محدد كل الأمور بيننا «كم لديك من جيم؟ وكم ترك لك المرحومان من متابعين؟ وكم عدد لايكاتك مقابل عدد لايكاتي؟»، أي منذ أصبح السياسي لدينا في البرلمان يقول في المباشر خلال النقل التلفزيوني: «ديالي أكبر من ديالك»، ونجد نحن جميعا الأمر عاديا، ويقول أكثرنا تبلدا «إنها مستملحات فقط»، ونواصل المسير أو النزول، ونمضي.
طيب، هل من حل لحرب المونولوغات المكتفية بنفسها الدائرة رحاها بيننا و... بيننا اليوم؟
نعم، هناك حل، أكيد، لا بد من حل، وهو سيبدأ عندما تتمكن الأسرة والمدرسة من تربية جيل جديد يفهم أن الاختلاف في الدنيا هو الأصل، وأنه أمر محمود إذا تم تصريفه بشكل عاقل، بل هو الرحمة نفسها.
سنجد الحل عندما ننتج جيلا لا يخون ولا يكفر ولا يخرج منذ اللحظة الأولى من أي شيء ومن كل شيء، أي شخص يقول له كلاما أو رأيا لا يروقانه.
وكونوا على يقين، رغم ما ترونه اليوم من اكتفاء جاهل بالذات، من طرفنا جميعا، أن هذا الجيل قادم، لأن درس التاريخ الأول والكبير علمنا أن ما يلي الانحطاط والانغلاق دوما هو التقدم والانفتاح.
في انتظار ذلك، ومع كل الحزن لقولها والاعتراف بها: نحن مضطرون للتعايش مع زمن اكتفاء كل واحد منا بذاته، وتزجية الوقت بالمزيد من «المعاطية»، و«تقطار الشمع»، في انتظار أوقات أفضل، أي في انتظار «يحن الله وصافي».