الذين استغربوا الإقبال الكبير على الكاتب السعودي أسامة المسلم، في معرض الكتاب وذهبوا إلى محرك البحث العالمي الشهير، لكي "يغوغلونه"، ويبحثوا عن إسمه، وعن كتبه، وعن سبب شهرته بين الشباب المغربي التي اكتشفوها السبت الماضي فقط، أناس أقفلوا على أنفسهم منذ زمن بعيد "بالضبة والمفتاح"، واعتنقوا الوهم الكبير الذي يقول لهم إنهم لوحدهم "مضويين البلاد"، وأن الدنيا توقفت منذ حلوا بها، هم عن إنتاج المزيد من الآدميين الذين يتألقون في مختلف الميادين، والذين يتبعهم آدميون آخرون لاعلاقة لهم بالمحنطين داخل أوهامهم والترهات.
جاء أسامة المسلم إلى الرباط، وجمهوره (يتوعد) الجميع قبل مجيئه بأنه سيكون في انتظاره، وكذلك كان. يعني أن الشباب الذين خلقوا تلك الفوضى العارمة حول الكاتب السعودي أخبروا الكل مسبقا أنهم سيحلون بكثافة لمشاهدة نجم كتاباتهم الفانطازية المفضل، لكننا لانستمع لصوت هؤلاء في العادة، ولم نستمع لهم أيضا هذه المرة، فكانت النتيجة مشاهدة كهول وشيوخ الكتب وعالم الكتابة والطبع والنشر في المغرب، يوم السبت مشدوهين وفاغري الأفواه، أمام هذه الشريحة من القراء الموجودة بين ظهرانيهم لكن التي لايعرفون بوجودها، مثلما لاتعرف هي الأخرى، ولاتعترف بوجودهم أصلا.
في مشيتهم الغيورة ذلك المساء في أروقة المعرض، وهم يعضون شفاههم ندما على هذا الجمهور الذي ضاع من أيديهم، لأنهم لم يعرفوا كيفية مخاطبته يوما، كنت تسمع كلاما كثيرا عن "جيل تيك توك، وعن الدمار الذي خلفته وسائط التواصل وعن الهوة التي اتسعت بين الجيل الرقمي الذي ولد وفي يديه شاشة، وبين القادمين من العوالم الأخرى"، وبقية هاته الأشياء…
ولا أحد من جيل التقليديين المحنط، ومن سار على هديه بذات التحنيط، طرح فرضية احترام اختيارات هؤلاء "القراء الجدد"، أو حاول أن يصمت فقط، وأن يذهب إلى كتب هذا الكاتب الذي خلق كل هاته الضجة، لكي يقرأها، ولكي يعثر داخلها على السبب الذي منحه كل هاته الحظوة بين هؤلاء الشباب والآخرين الأقل شبابا.
ودون مقارنة خاطئة، هذا هو نفس رد الفعل الذي أبداه المحنطون داخل أنانياتهم مع "الراب" يوم وصل عالمنا، ومع أي تعبير جديد في كل المجالات، لايعرفونه تقدمه لهم الأجيال الجديدة، فيدخلون بسبب "الخوف" (وهذه رواية من روايات أسامة المسلم) رأس السحلفة في قوقعتها الحجريّة الشهيرة، أو يدفنون رأس النعامة في الرمال الأشهر، ويعتقدون أنهم حلوا الإشكال، فقط لأنهم قرروا عدم رؤيته، وعدم الإنصات لكل رسائله.
مشكل الهوة بين الأجيال رأيناه رؤى العين السبت الفارط، وابتسم جزء كبير منا بفرح داخلي، لأن ماوقع انتقم لنا - بشكل أو بآخر - من داء "الشللية" الذي يجعلك مبدعا فقط لأن لديك أصدقاء يكتبون عنك في كل مكان إنك مبدع، والذي يجعلك كاتبا كبيرا فقط إذا كانت خالتك وبقية قريباتك الفاضلات قاطنات في دار العرس المتخصص في طبخ الكتاب على عجل.
تذكرنا عددا كبيرا من الشباب المبدعين فعلا، الذين رحلوا وفي قلبهم غصة عدم الاعتراف بهم، بل وعدم السماح لهم حتى بإيصال ذلك المكنون الداخلي المسمى إبداعا الذي يعتقدون أنهم يحملونه، فقط لأنهم ليسوا أبناء الشلة أو القبيلة أو الحزب أو الفرع أو الجمعية أو العصابة وبقية الانتماءات الغريبة.
اليوم هذا الجيل لم يعد مضطرا لانتظار هذا الاعتراف /المسخ، المبني غالبا على أسس غير إبداعية.
اليوم هذا الجيل يصل إلى بعضه البعض بنفسه، وهذه لوحدها حسنة كبرى لمواقع التواصل وسط كم سيئاتها المهول.
لعله الدرس الصغير الذي لقننا إياه هذا الكاتب السعودي الذي اكتشف الكثيرون وجوده ووجود قرائه، فقط ذلك المساء.