Ahdath.info
أكد خطاب الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 24 لتربعه على عرش المملكة المغربية أنه خطاب القيادات العليا الكاريزمية التاريخية. ذلك، أنه قليل من القادة التاريخيين من يكتسبون عقيدة قيم ناجحة والأقل منهم من يعبر بأنه يمتلك ويدرك معتقدات مميزة، بل إن النادر منهم من يعمل على ترسيخ هذه القيم اتجاها مذهبيا عاما محفزا لسلوك عموم الشعب ومنهجا تنظيميا ملهما للإدارة العليا ومعيارا للحكم وأداة للأداء الفعال والإنجاز وقاعدة للمسؤولية والحاسبة.
إن الملك، في خطاب العرش، جعل منظومة القيم التي أشار إليها هي المعتقد الراسخ والإدراك الواعي للأسلوب الناجع الذي يجب أن تتأسس عليه كل أفكار ورؤى وخطط وتدابير جميع أعمال المغاربة أفرادا وجماعات وحكومة وإدارة وقضاء وقطاع خاص في كل المجالات وعلى جميع المستويات. بحيث، لا مناص من أن تعمل منظومة القيم على تعزيز سلوك المغاربة قاطبة في كل أعمالهم وعلى أن تشكل أساس كل تصرف وميزة كل صفة وموصوف.
وقد أكد خطاب عيد العرش ليوم 29 يوليوز2023 بما لا يدع مجالا للشك بأن الدور الارشادي والتوجيهي للملك محمد السادس باعتباره قائد البلاد يتأسس على نظام قيم فعال ومؤثر في المؤسسات الدستورية وعلى تفكير وعمل المغاربة. فمنظومة القيم المتمثلة في الجدية هي الدافعية المؤطرة لثقافة أداء جميع المغاربة وخلفية إنجازاتهم ونجاحهم.
مفهوم الجدية:
لقد كرس الخطاب الملكي الجدية مفهوما محددا لأخلاقيات المغاربة من حيث طموح القيام بالأعمال الصحيحة بفعالية وبكفاية وبجدارة ومن حيث تشكل رؤى ناضجة الإنجاز والتحسين والتطوير والجودة والتقدم. تؤكد التجارب الواقعية أن الظروف الصعبة وأزمنة التهديدات والتحديات المتلاحقة مثل سياقات أيامنا هاته حيث الأوبئة والحروب والأزمات والغلاء تجعل البلدان أنظمة وحكومات ومؤسسات وشعوبا في أمس الحاجة إلى قيم خيرة تمثل أرضيه صلبة محفزة للسلوك والأداء. ذلك، إنه في أزمة الأزمات تكون الشعوب في حاجة للثقة من أجل التكيف وإدارة الإصلاح والتغيير بفعالية. فقيم الجد والخير هي المطلوبة كأساس حيوي لتحدي المشاكل ولتجاوز الصعاب والأداء الفعال عوض الاستسلام للضغوط والتهديدات أو الإرتهان لقيم سلبية محبطة.
إن خطاب عيد العرش أظهر أن الملك محمد السادس عبر عن عاطفة قوية تجاه إنجازات المغاربة متمثلة في ما قدمه الفريق الوطني لكرة القدم من أداء كبير في مونديال قطر و دخول المغرب نادي مصنعي السيارات وغير ذلك من نجاحات دبلوماسية وهو ما قدمه الملك للمغاربة وعمل على ترجمته في خطابه كإطار توجيهي لهم من أجل استلهامه في حياتهم المهنية الخاصة كمعتقد ومذهب ومنهج يشكل شخصيتهم ويؤطر أعمالهم.
لقد جعل الخطاب الملكي من الجدية قيمة استراتيجية للعمل وللأداء الفعال نابعة من صميم البيئة المغربية ومبدءا يتحقق حوله إجماعهم حاضرا ومستقبلا في جميع المجالات. فالجدية هي القيمة الكفيلة بإحداث التغيير المنشود لتجاوز الروتين الإداري وديمقراطية العمل وضعفه. فقيم الخير في الجد والأداء، وأخلاقيات العمل هي الموجهة للسلوك والمحققة للنتائج لما تعبر عنه من إرادة ودافعية قوية وميول نحو الإنجاز الفعال وطموح نحو الإبداع الإبتكار وتكسير لأغلال الأداء الضعيف. فالجدية، حين تفعل كمعتقد شخصي لكل مغربي، تكون توقعات الفعالية والإنجاز مرتفعة ومضمونة. بحيث، أصبحت الجدية تمثل مرحلة نضج عاطفي وواقعي للمجتمع.
وهكذا، نجح الخطاب الملكي في تحقيق التحفيز والإثارة الملائمة للسلوك واتجاه العمل. فالعمل الجدي هو نبراس وطريق النجاح لتعزيز المكتسبات في هذه الظروف الدولية الصعبة. ذلك، إن المغرب محتاج، أكثر من أي وقت مضى، للمثل الناجحة في العمل لأجل الأداء الفعال. إذ، لابد من الإدراك بأن الجدية هي أساس المسؤولية الذاتية المطلوبة في كل مغربي بما هي المقوم الكامن في شخصيته والذي يجب أن يعبر عن ذاته في كل عمل وكل نشاط وكل مؤسسة وكل قطاع وكل مجال ومستوى. فالبقاء للأصلح، وهو أساس أن تصير أقوى. فالجدية هي نبراس المصداقية والمساهمة وبمقتضاها يتم اكتساب الاعتراف وحشد النجاحات على غرار ديناميكية الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على صحرائه وحقه في وحدته الترابية.
لقد جعل خطاب الملك من الجدية قيمة قيادية وإدارية وعملية لمدرسة واقعية تؤمن بأن الأداء الفعال والنجاح عالي الكفاية يتأسسان على بذل الجهد المتواصل والدائم في كل الأعمال وعدم الاستسلام للسهولة وللتراخي. فعلى قدر العزم تأتي العزائم. ولذلك، اختار الخطاب الملكي أن تكون الجدية أساس عنوان المرحلة المقبلة للمغاربة.
ولهذا، سنعمل على استلهام منظومة القيم المشكلة للخطاب والواردة في فقراته واحدة واحدة حتى نظهر بأن الخطاب مبني ومركب على أساس نظام قيم متجانس ومتكامل ويشكل نسق عقيدة قيادية أخلاقية عقلانية وواقعية. كما سنعمل على ترك مضامين ودلالات هذه القيم تعبر عن نفسها من خلال الخطاب الملكي حتى يتم تمثله بشكل جيد وواضح.
1- تثبيت الشرعية: وتقوم على مستوى توضيح القيادي صاحب المسؤولية مصدر سلطته. ذلك، أن السلطة التي لا تحوز رضى الشعب لا تنجح فيما تريد أن تمارسه من قوة ونفوذ إيجابيين في تدبير شؤون الدولة والحكم. بحيث، تعيش السلطة التي ليست لديها شرعية على إيقاع التهديدات والاضطرابات الدائمة التي لا مخرج لها إلا بانزلاقات كبرى تفجر كيان البلاد والدولة ولا تنعم بالاستقرار والاندماج والانصهار. إذ، تنعدم إمكانية تثبيت وترسيخ مكونات الأمة. ولهذا، استهل الملك خطابه بالحديث عن نعمة التلاحم الدائم والتجاوب التلقائي بين العرش والشعب ''مكن المغرب من إقامة دولة أمة تضرب جذورها في أعماق التاريخ'' و''كون المغاربة معروفون، والحمد لله، بخصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة''.
2- ترسيخ الواقعية: و تقوم على الاعتقاد الراسخ و الإيمان الثابت بان النجاح والأشياء المهمة والجيدة لا تأتي إلا بالجدية اللازمة وببذل الجهود الممكنة لتمكين العمل وتطوير الأداء وترسيخ الكفاءة عقيدة واتجاها وسلوكا. وهو ما عمل الخطاب على إبرازه في كل ما قاله وبلوره بخصوص مفهوم الجدية وكل مرادفاتها العاطفية ومستلزماتها العملية وبما ورد في الخطاب من كون ''المغاربة معروفون على الخصوص بالجدية والتفاني في العمل'' و''كلما كانت الجدية حافزنا، كلما نجحنا وتجاوزنا الصعوبات، ورفعنا التحديات''.
3- تفعيل المسؤولية: إن قيمة المسؤولية تعد خاصية جوهرية للقيادي الناجح من حيث حمله عبء الحرص على توليد خيارات صائبة وصحيحة والسهر على توفير الظروف الجيدة والإمكانات الضرورية للقرارات وتحمل مسؤولية توجيه وتنسيق وتتبع وتقييم وتقويم الأعمال مما يلزم من عطف ومرونة وما يتحتم من حزم وصرامة عند الضرورة من خلال ربط الصلاحيات بالمسؤولية وبالمحاسبة. إذ، نص الخطاب على أن ''الجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص''. فالمسؤولية هي التي تقف وراء الإدارة الشاملة لكل القطاعات والمجالات وحشد كل الجهود والإمكانات وتحفيز جميع الفاعلين. بحيث، أكد الخطاب أن الجدية ''يجب أن تظل مذهبا في الحياة وأن تشمل جميع المجالات'' سواء في الحياة السياسية والإدارية والقضائية أو في المجال الاجتماعي أو لدى الفاعلين الاقتصاديين وقطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال. فالمسؤولية الفاعلة هي التي تتجسد كقيمة دافعة فيما يتعلق بالحديث عن طاقات وقدرات الشباب وتشجيعه أو بالإشارة إلى اختيار الكفاءات المؤهلة مع ''إشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص''.
ولعل مقتضيات المسؤولية كثيرة ومتنوعة لا تقتصر على ''توجيه الحكومة واتخاذ التدابير اللازمة ''ولا الحديث عن ''مشروع الاستثمار الأخضر'' و"تسريع قطاع الطاقات المتجددة" والإسراع بتنزيل مشروع "عرض في المغرب "في مجال الهدروجين الأخضر ولا في ''منح التعويضات الاجتماعية لفائدة الأسر المستهدفة'' ولا فيما يتعلق بالوحدة الترابية أو ما يخص عدم ''التساهل مع سوء الحكامة والتدبير والاستعمال الفوضوي واللا مسؤول للماء"، وإنما المسؤولية حاضرة بقوة، كذلك، فيما يخص صدق التعاطي بجد وبحزم مع القضية الفلسطينية؛ حيث يقول الملك ''وبنفس الجدية والحزم، نؤكد موقف المغرب الراسخ بخصوص عدالة القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق في إقامة دولته المستقلة و عاصمتها القدس الشرقية".
4- صدق العاطفة: وهي جزء لا يتجزأ من روح المسؤولية لأنها ترتبط بجوهر الإحساس القيادي عطفا على المواطن وتجاوبا مع الأداء الفعال. فالخطاب أظهر الشعور القوي والافتخار بالإنجازات وأثنى عليها وخولها تقديرا عاليا لتعزيز الثقة كما كان الشأن بخصوص الحديث عن إنجاز المنتخب الوطني بكأس العالم الأخير بقطر. حيث، قال الملك "فقد قدم أبناؤنا، بشهادة الجميع، وطنيا ودوليا، أجمل صور حب الوطن والوحدة والتلاحم العائلي، وأثاروا مشاعر الفخرو الاعتزاز لدينا ولدى كل مكونات الشعب المغربي". وهي العاطفة نفسها المعبر عنها بخصوص إنتاج سيارتين مغربيتين. إذ، صرح الملك "وأخص بالإشادة هنا إنتاج أول سيارة مغربية محلية الصنع بكفاءات وطنية وتمويل مغربي، وكذا تقديم أول نموذج لسيارة تعمل بالهيدروجين قام بتطويرها شاب مغربي". وهي الإنجازات التي وسمها الخطاب في جملة استعارية تاريخية عزيزة تتمثل في "النبوغ المغربي". ولعل الإحساس العاطفي نفسه هو ما جعل الملك يدعو الحكومة "لاتخاذ التدابير اللازمة قصد تخفيف (الآثار السلبية للجفاف) على الفئات الاجتماعية والقطاعات الأكثر تضررا" و"تحسين الوضع المعيشي لملايين الأسر والأطفال الذين نحس بمعاناتهم".
5- الفعالية: إذا كانت قيم الشرعية والواقعية والمسؤولية والعاطفة تتجسد قياديا على مستوى المذهب والإدارة العليا وخياراتها وقراراتها، فإن الفعالية والكفاية تشتغلان على مستوى المنهج بالنسبة للقيادة العليا للحكومة والإدارة بالنسبة لتأدية المهام. فقد وردت كلمتي المذهب والمنهج بصريح نص الخطاب. فالفعالية التي هي عمل الأشياء الصحيحة هي معيار الأداء الجيد ومقياس النجاح. ذلك، إن الخطاب الملكي كله حديث عن أنجع الطرق للقيام بالمهام على أحسن وجه وبصورة أكثر فعالية وعبر الجهد المتواصل والمتكامل في كل القضايا والتحديات ومن خلال جميع المؤسسات والقطاعات وبخصوص كل المجالات والمستويات.
ولعل مفهوم الجدية قد رسم إطارا واضحا لكيفية تأدية المهام وحدد الأداء العالي والفعالية معيارا ومقياسا ومطلبا لا محيد عنه في كل المهام ولسائر الأعمال والعمليات. وهو ما عبر عنه الخطاب الملكي بضرورة "التشبث بالجدية".
بيد، إن الفعالية تقتضي، كذلك، مواجهة كل ما يعرقل النجاح والعمل الحثيث على تفادي المنافسة الهدامة والتخلي عن الأساليب الخاصة بالأفراد والمجموعات والقطاعات والأحزاب والتنظيمات في العمل وخاصة في كل ما يتعلق بالإضرار بالمصلحة العامة؛ حيث، حث الخطاب على ضرورة "تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة".
6- الكفاية: إذا كانت الفعالية هي عمل الأشياء الصحيحة، فالكفاية هي عمل الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة في ظل الحرص على الجودة و توخي تجاوز تحقيق الأهداف المرسومة إلى التجديد والابداع. ولهذا، فحرص الملك على تحقيق الكفاية يتجلى في التنويه بالابتكار والابداع وإعطاء الانجازات اهتماما كبيرا وتثمينها والإشادة بها. فالخطاب، أظهر أن الملك ينظر نظرة تقدير عالية للأشياء المجددة والإنجازات المبتكرة في كل المجالات والقطاعات والبرامج والمشاريع كما يتضح من خلال الحديث عن تشجيع "الاجتهاد والابتكار" وعلامة "صنع في المغرب" ومن خلال التطلع إلى أن تكون نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2030 بالمغرب "تاريخية على جميع المستويات" ومن خلال "الارتقاء إلى مرحلة جديدة وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى التي يستحقها المغاربة ما بعد وصول "المسار التنموي الى درجة من التقدم والنضج".
ولعل قيمة الكفاية كغاية لكل أداء وفي كل عمل لا تقتصر على إدارة تحقيق الجودة العالية والوصول إلى علامة "صنع في المغرب" فقط، وإنما تكمن، كذلك، في طرق أبواب مجالات غير مسبوقة تحقق للمغرب التميز كما هو الشأن في مجال الطاقات المتجددة أو فيما يخص مشروع "عرض في المغرب" في مجال الهيدروجين الأخضر. حيث، يدعو الخطاب الملكي إلى تنزيل هذا المشروع "بالجودة اللازمة" و"بما يضمن تثمين المؤهلات التي تزخر بها بلادنا، والاستجابة لمشاريع المستثمرين العالميين في هذا المجال الواعد".
7- المصداقية: إن تحقيق المكانة لأي بلد وترقيته وإعطائه وضعا أفضل بين الدول وخاصة في زمن يموج بتغييرات صعبة وحادة لا تقتصر على الحسابات المنطقية الميكانيكية لمقوم الفعالية في حد ذاته ولا لدافعية الكفاية بشكل خاص مهما توفر لها من الطموح والثقة والإمكانات المادية والموارد المالية والبشرية والتكوين والتدريب والتأهيل إن لم تكن مؤطرة ومدعومة بالمصداقية. فهاته الأخيرة ليست هرطقات كلام هنا وهناك ولا شعارات فارغة بقدر ماهي قيمة عاطفية وكيمياء إخلاص وحب والتزام وتعبير عن الانتماء والقيام بالواجب بمسؤولية وبمواطنة عالية في كل موضوع ومجال ومع أي كان. فالمصداقية فهي التي تقام على إرادة المساهمة والتعاون، وهي التي تأتي بالاعتراف الداخلي والخارجي، ولا يمكن شراؤها بالمال ولا بالشعارات. ولهذا، ينص الخطاب على كون "المغاربة معروفون، والحمد لله، بفعالية الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح".
ولعل قيمة المصداقية هي التي جعلت الخطاب يتحدث عن الإنجازات ويشيد بها كما يتطرق إلى التحديات ويعمل على تخفيف ضغوطها كما هو الشأن بالنسبة لمعاناة الأسر الفقيرة في ظل الجفاف والتضخم والغلاء أو كما هو الأمر بخصوص شجاعة التطرق إلى الاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء مع التأكيد، في الآن نفسه، على "موقف المغرب الراسخ بخصوص عدالة القضية الفلسطينية".
8- حسن إدارة البيئة: لا تترسخ قيم القيادة العليا في إدارة شؤون البيئة الداخلية من خلال صور ومواصفات ومبادئ وقواعد وضوابط القيم السابقة فقط، ولكنها تنتشر وتتعزز بحسن إدارة البيئة الخارجية للبلد على مستوى مختلف العلاقات وكل أشكال التفاعل وأنماط تدبير المتغيرات والمستجدات ونماذج صبر أغوار الأزمات ومواجهة التهديدات الخارجية ولاسيما المعقدة والعدائية منها. ذلك، إن الخطاب الملكي أظهر أن بُعد حُسنِ الدفاع كمقوم في التعاطي مع البيئة الخارجية بُعدٌ عقلاني ينهض على "التعاون والتواصل والتفاهم" وعلى كل مقتضيات تحقيق السلم والأمن بالحوار والحب والمشاركة الإيجابية كما تمت الإشارة إلى ذلك بخصوص ترشح المغرب إلى جانب إسبانيا والبرتغال لاحتضان بطولة كأس العالم لكرة القدم 2030 والتي تحدث فيها الملك عن الصداقة وعن رغبة توحيد ضفتي البحر الأبيض المتوسط وإرادة تحقيق "طموحات وتطلعات شعوب المنطقة".
وتَزكى هذا البعد العقلاني الناضج في حُسن إدارة البيئة الخارجية بخصوص إصرار الخطاب على إدارة وإخراج الخلاف الجزائري-المغربي من دائرة الصراع والعداء إلى دائرة الصداقة والأخوة والتهدئة. حيث، يقول الملك: "إن عملنا على خدمة شعبنا لا يقتصر فقط على القضايا الداخلية، وإنما نحرص، أيضا، على إقامة علاقات وطيدة مع الدول الشقيقة والصديقة، وخاصة دول الجوار. وخلال الأشهر الأخيرة، يتساءل العديد من الناس عن العلاقات بين المغرب والجزائر، وهي علاقات مستقرة تتطلع لأن تكون أفضل".
وقد اغتنم الخطاب الفرصة ليبعث رسالة مطمئنة جديدة للجزائر ويحتضنها بيد ممدودة مفعمة "بروابط المحبة والصداقة" وبطموح تمكين الشعبين الجزائري والمغربي من إمكانات تجديد الصلة وتوطيد الروابط بشكل طبيعي من خلال فتح الحدود بين البلدين في وجه الشعبين الشقيقين.
بيد، إن الرهان على حسن إدارة البيئة الخارجية يؤكد حسن استثمار الفرص لتوطيد العلاقات. فالمغرب الذي فتح صفحة جديدة مع الجارة إسبانيا بعد اعترافها بمصداقية الحكم الذاتي كحل واقعي لنزاع الصحراء، قد جعل من إنجاز المنتخب الوطني لكرة القدم في مونديال قطر فرصة مناسبة للانضمام لطلب إسبانيا والبرتغال لاحتضان مونديال 2030 رغبة في تجسير الصلة بين البلدان الثلاث وتقوية الروابط بين إفريقيا وأوروبا ثقافيا وحضاريا في إطار المنافسة البناءة والتكامل والتناغم.
9- التخطيط الجيد للمستقبل: لا يمكن فهم منظومة القيم في ارتباطها الأصيل والعميق بالثقافة القيادية الناجحة من خلال النظر إليها باعتبارها تَرتَهِنُ بتراث سياسي واقتصادي وإداري مرتبط بالماضي والتاريخ فقط أو بمقومات الفعل في الحاضر، وإنما بما هي دافعية دينامية للتحليل الاستراتيجي والتأثير في المستقبل. ذلك، إن منظومة القيم هي أرضية صلبة للتخطيط الجيد للمستقبل. كما أن القيمة الناجحة هي التي تسمح بإمكانية حسن التكيف والتلاؤم مع المتغيرات وتفتح باب الاستجابة السريعة في كل الظروف: إجابة عن الأسئلة المستجدة تخطيطا وتنفيذا وتنبؤا واستشرافا.
وقد أكد الخطاب ذلك حين أشار إلى ضرورة "فتح أفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى"، وحين أكد مكانة المغرب "كوجهة للاستثمار الناجح"؛ وكذا لما حث على "إشاعة الثقة واستثمار الفرص الجديدة لتعزيز صعود وانتعاش الاقتصاد الوطني" وما لذلك من صلة بـ"إطلاق مشروع الاستثمار الأخضر للمكتب الوطني للفوسفاط" و"تسريع مسار قطار الهيدروجين الأخضر" و"الدعوة للإسراع بتنزيله بالجودة اللازمة وبما يضمن تثمين المؤهلات التي تزخر بها بلادنا والاستجابة لمشاريع المستثمرين العالميين في هذا المجال الواعد".
خــــاتمة: يتأكد بالملموس، أن مفهوم الجدية الذي نحته خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الرابعة والعشرين لعيد العرش لهذه السنة (2023) ليس قيمة أحادية بقدر ماهي قيمة استراتيجية تعبر عن نسق قيمي شامل ومتكامل يجسد عقيدة للتصرف والسلوك تستند على مبادئ ثابتة ورؤية متماسكة الخيارات وذات مصداقية. ذلك، إن القيادة الناجحة تقوم على نظام قيمي أصيل واضح ومنسجم. وهذا لا يتحقق إلا للقيم المحترمة الكفيلة بجذب الناس إليها والمسعفة على تحقيق تناغم مكونات ومقومات العمل لما فيه صالح الأداء الاستراتيجي العالي والفعال.
لقد جعل خطاب الملك من مفهوم الجدية كلمة سحرية بالغة التأثير وكفيلة بتشكيل إطار مرجعي للسياسة الحكومية ولكل المؤسسات رسمية وخاصة. بحيث، أصبحت قيمة الجدية محددة لسلوك العمل وفي خدمة تحسين فاعليته. غير أن الخطاب أكد من جهة أخرى أن نجاعة القيمة لا تتحقق إلا إذا أصبحت معيار جوهر عمل كل فرد في الإدارة والمجتمع على حد سواء. ومن تمة، فقوة مفهوم الجدية تكمن في كونه يمثل قيمة معروفة ومفهومة من لدن كافة المغاربة، مما قد يعطيها قوة تمكينية لجميع المواطنين بنفس الإرادة والحماس.
أكد خطاب الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 24 لتربعه على عرش المملكة المغربية أنه خطاب القيادات العليا الكاريزمية التاريخية. ذلك، أنه قليل من القادة التاريخيين من يكتسبون عقيدة قيم ناجحة والأقل منهم من يعبر بأنه يمتلك ويدرك معتقدات مميزة، بل إن النادر منهم من يعمل على ترسيخ هذه القيم اتجاها مذهبيا عاما محفزا لسلوك عموم الشعب ومنهجا تنظيميا ملهما للإدارة العليا ومعيارا للحكم وأداة للأداء الفعال والإنجاز وقاعدة للمسؤولية والحاسبة.
إن الملك، في خطاب العرش، جعل منظومة القيم التي أشار إليها هي المعتقد الراسخ والإدراك الواعي للأسلوب الناجع الذي يجب أن تتأسس عليه كل أفكار ورؤى وخطط وتدابير جميع أعمال المغاربة أفرادا وجماعات وحكومة وإدارة وقضاء وقطاع خاص في كل المجالات وعلى جميع المستويات. بحيث، لا مناص من أن تعمل منظومة القيم على تعزيز سلوك المغاربة قاطبة في كل أعمالهم وعلى أن تشكل أساس كل تصرف وميزة كل صفة وموصوف.
وقد أكد خطاب عيد العرش ليوم 29 يوليوز2023 بما لا يدع مجالا للشك بأن الدور الارشادي والتوجيهي للملك محمد السادس باعتباره قائد البلاد يتأسس على نظام قيم فعال ومؤثر في المؤسسات الدستورية وعلى تفكير وعمل المغاربة. فمنظومة القيم المتمثلة في الجدية هي الدافعية المؤطرة لثقافة أداء جميع المغاربة وخلفية إنجازاتهم ونجاحهم.
مفهوم الجدية:
لقد كرس الخطاب الملكي الجدية مفهوما محددا لأخلاقيات المغاربة من حيث طموح القيام بالأعمال الصحيحة بفعالية وبكفاية وبجدارة ومن حيث تشكل رؤى ناضجة الإنجاز والتحسين والتطوير والجودة والتقدم. تؤكد التجارب الواقعية أن الظروف الصعبة وأزمنة التهديدات والتحديات المتلاحقة مثل سياقات أيامنا هاته حيث الأوبئة والحروب والأزمات والغلاء تجعل البلدان أنظمة وحكومات ومؤسسات وشعوبا في أمس الحاجة إلى قيم خيرة تمثل أرضيه صلبة محفزة للسلوك والأداء. ذلك، إنه في أزمة الأزمات تكون الشعوب في حاجة للثقة من أجل التكيف وإدارة الإصلاح والتغيير بفعالية. فقيم الجد والخير هي المطلوبة كأساس حيوي لتحدي المشاكل ولتجاوز الصعاب والأداء الفعال عوض الاستسلام للضغوط والتهديدات أو الإرتهان لقيم سلبية محبطة.
إن خطاب عيد العرش أظهر أن الملك محمد السادس عبر عن عاطفة قوية تجاه إنجازات المغاربة متمثلة في ما قدمه الفريق الوطني لكرة القدم من أداء كبير في مونديال قطر و دخول المغرب نادي مصنعي السيارات وغير ذلك من نجاحات دبلوماسية وهو ما قدمه الملك للمغاربة وعمل على ترجمته في خطابه كإطار توجيهي لهم من أجل استلهامه في حياتهم المهنية الخاصة كمعتقد ومذهب ومنهج يشكل شخصيتهم ويؤطر أعمالهم.
لقد جعل الخطاب الملكي من الجدية قيمة استراتيجية للعمل وللأداء الفعال نابعة من صميم البيئة المغربية ومبدءا يتحقق حوله إجماعهم حاضرا ومستقبلا في جميع المجالات. فالجدية هي القيمة الكفيلة بإحداث التغيير المنشود لتجاوز الروتين الإداري وديمقراطية العمل وضعفه. فقيم الخير في الجد والأداء، وأخلاقيات العمل هي الموجهة للسلوك والمحققة للنتائج لما تعبر عنه من إرادة ودافعية قوية وميول نحو الإنجاز الفعال وطموح نحو الإبداع الإبتكار وتكسير لأغلال الأداء الضعيف. فالجدية، حين تفعل كمعتقد شخصي لكل مغربي، تكون توقعات الفعالية والإنجاز مرتفعة ومضمونة. بحيث، أصبحت الجدية تمثل مرحلة نضج عاطفي وواقعي للمجتمع.
وهكذا، نجح الخطاب الملكي في تحقيق التحفيز والإثارة الملائمة للسلوك واتجاه العمل. فالعمل الجدي هو نبراس وطريق النجاح لتعزيز المكتسبات في هذه الظروف الدولية الصعبة. ذلك، إن المغرب محتاج، أكثر من أي وقت مضى، للمثل الناجحة في العمل لأجل الأداء الفعال. إذ، لابد من الإدراك بأن الجدية هي أساس المسؤولية الذاتية المطلوبة في كل مغربي بما هي المقوم الكامن في شخصيته والذي يجب أن يعبر عن ذاته في كل عمل وكل نشاط وكل مؤسسة وكل قطاع وكل مجال ومستوى. فالبقاء للأصلح، وهو أساس أن تصير أقوى. فالجدية هي نبراس المصداقية والمساهمة وبمقتضاها يتم اكتساب الاعتراف وحشد النجاحات على غرار ديناميكية الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على صحرائه وحقه في وحدته الترابية.
لقد جعل خطاب الملك من الجدية قيمة قيادية وإدارية وعملية لمدرسة واقعية تؤمن بأن الأداء الفعال والنجاح عالي الكفاية يتأسسان على بذل الجهد المتواصل والدائم في كل الأعمال وعدم الاستسلام للسهولة وللتراخي. فعلى قدر العزم تأتي العزائم. ولذلك، اختار الخطاب الملكي أن تكون الجدية أساس عنوان المرحلة المقبلة للمغاربة.
ولهذا، سنعمل على استلهام منظومة القيم المشكلة للخطاب والواردة في فقراته واحدة واحدة حتى نظهر بأن الخطاب مبني ومركب على أساس نظام قيم متجانس ومتكامل ويشكل نسق عقيدة قيادية أخلاقية عقلانية وواقعية. كما سنعمل على ترك مضامين ودلالات هذه القيم تعبر عن نفسها من خلال الخطاب الملكي حتى يتم تمثله بشكل جيد وواضح.
1- تثبيت الشرعية: وتقوم على مستوى توضيح القيادي صاحب المسؤولية مصدر سلطته. ذلك، أن السلطة التي لا تحوز رضى الشعب لا تنجح فيما تريد أن تمارسه من قوة ونفوذ إيجابيين في تدبير شؤون الدولة والحكم. بحيث، تعيش السلطة التي ليست لديها شرعية على إيقاع التهديدات والاضطرابات الدائمة التي لا مخرج لها إلا بانزلاقات كبرى تفجر كيان البلاد والدولة ولا تنعم بالاستقرار والاندماج والانصهار. إذ، تنعدم إمكانية تثبيت وترسيخ مكونات الأمة. ولهذا، استهل الملك خطابه بالحديث عن نعمة التلاحم الدائم والتجاوب التلقائي بين العرش والشعب ''مكن المغرب من إقامة دولة أمة تضرب جذورها في أعماق التاريخ'' و''كون المغاربة معروفون، والحمد لله، بخصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة''.
2- ترسيخ الواقعية: و تقوم على الاعتقاد الراسخ و الإيمان الثابت بان النجاح والأشياء المهمة والجيدة لا تأتي إلا بالجدية اللازمة وببذل الجهود الممكنة لتمكين العمل وتطوير الأداء وترسيخ الكفاءة عقيدة واتجاها وسلوكا. وهو ما عمل الخطاب على إبرازه في كل ما قاله وبلوره بخصوص مفهوم الجدية وكل مرادفاتها العاطفية ومستلزماتها العملية وبما ورد في الخطاب من كون ''المغاربة معروفون على الخصوص بالجدية والتفاني في العمل'' و''كلما كانت الجدية حافزنا، كلما نجحنا وتجاوزنا الصعوبات، ورفعنا التحديات''.
3- تفعيل المسؤولية: إن قيمة المسؤولية تعد خاصية جوهرية للقيادي الناجح من حيث حمله عبء الحرص على توليد خيارات صائبة وصحيحة والسهر على توفير الظروف الجيدة والإمكانات الضرورية للقرارات وتحمل مسؤولية توجيه وتنسيق وتتبع وتقييم وتقويم الأعمال مما يلزم من عطف ومرونة وما يتحتم من حزم وصرامة عند الضرورة من خلال ربط الصلاحيات بالمسؤولية وبالمحاسبة. إذ، نص الخطاب على أن ''الجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص''. فالمسؤولية هي التي تقف وراء الإدارة الشاملة لكل القطاعات والمجالات وحشد كل الجهود والإمكانات وتحفيز جميع الفاعلين. بحيث، أكد الخطاب أن الجدية ''يجب أن تظل مذهبا في الحياة وأن تشمل جميع المجالات'' سواء في الحياة السياسية والإدارية والقضائية أو في المجال الاجتماعي أو لدى الفاعلين الاقتصاديين وقطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال. فالمسؤولية الفاعلة هي التي تتجسد كقيمة دافعة فيما يتعلق بالحديث عن طاقات وقدرات الشباب وتشجيعه أو بالإشارة إلى اختيار الكفاءات المؤهلة مع ''إشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص''.
ولعل مقتضيات المسؤولية كثيرة ومتنوعة لا تقتصر على ''توجيه الحكومة واتخاذ التدابير اللازمة ''ولا الحديث عن ''مشروع الاستثمار الأخضر'' و"تسريع قطاع الطاقات المتجددة" والإسراع بتنزيل مشروع "عرض في المغرب "في مجال الهدروجين الأخضر ولا في ''منح التعويضات الاجتماعية لفائدة الأسر المستهدفة'' ولا فيما يتعلق بالوحدة الترابية أو ما يخص عدم ''التساهل مع سوء الحكامة والتدبير والاستعمال الفوضوي واللا مسؤول للماء"، وإنما المسؤولية حاضرة بقوة، كذلك، فيما يخص صدق التعاطي بجد وبحزم مع القضية الفلسطينية؛ حيث يقول الملك ''وبنفس الجدية والحزم، نؤكد موقف المغرب الراسخ بخصوص عدالة القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق في إقامة دولته المستقلة و عاصمتها القدس الشرقية".
4- صدق العاطفة: وهي جزء لا يتجزأ من روح المسؤولية لأنها ترتبط بجوهر الإحساس القيادي عطفا على المواطن وتجاوبا مع الأداء الفعال. فالخطاب أظهر الشعور القوي والافتخار بالإنجازات وأثنى عليها وخولها تقديرا عاليا لتعزيز الثقة كما كان الشأن بخصوص الحديث عن إنجاز المنتخب الوطني بكأس العالم الأخير بقطر. حيث، قال الملك "فقد قدم أبناؤنا، بشهادة الجميع، وطنيا ودوليا، أجمل صور حب الوطن والوحدة والتلاحم العائلي، وأثاروا مشاعر الفخرو الاعتزاز لدينا ولدى كل مكونات الشعب المغربي". وهي العاطفة نفسها المعبر عنها بخصوص إنتاج سيارتين مغربيتين. إذ، صرح الملك "وأخص بالإشادة هنا إنتاج أول سيارة مغربية محلية الصنع بكفاءات وطنية وتمويل مغربي، وكذا تقديم أول نموذج لسيارة تعمل بالهيدروجين قام بتطويرها شاب مغربي". وهي الإنجازات التي وسمها الخطاب في جملة استعارية تاريخية عزيزة تتمثل في "النبوغ المغربي". ولعل الإحساس العاطفي نفسه هو ما جعل الملك يدعو الحكومة "لاتخاذ التدابير اللازمة قصد تخفيف (الآثار السلبية للجفاف) على الفئات الاجتماعية والقطاعات الأكثر تضررا" و"تحسين الوضع المعيشي لملايين الأسر والأطفال الذين نحس بمعاناتهم".
5- الفعالية: إذا كانت قيم الشرعية والواقعية والمسؤولية والعاطفة تتجسد قياديا على مستوى المذهب والإدارة العليا وخياراتها وقراراتها، فإن الفعالية والكفاية تشتغلان على مستوى المنهج بالنسبة للقيادة العليا للحكومة والإدارة بالنسبة لتأدية المهام. فقد وردت كلمتي المذهب والمنهج بصريح نص الخطاب. فالفعالية التي هي عمل الأشياء الصحيحة هي معيار الأداء الجيد ومقياس النجاح. ذلك، إن الخطاب الملكي كله حديث عن أنجع الطرق للقيام بالمهام على أحسن وجه وبصورة أكثر فعالية وعبر الجهد المتواصل والمتكامل في كل القضايا والتحديات ومن خلال جميع المؤسسات والقطاعات وبخصوص كل المجالات والمستويات.
ولعل مفهوم الجدية قد رسم إطارا واضحا لكيفية تأدية المهام وحدد الأداء العالي والفعالية معيارا ومقياسا ومطلبا لا محيد عنه في كل المهام ولسائر الأعمال والعمليات. وهو ما عبر عنه الخطاب الملكي بضرورة "التشبث بالجدية".
بيد، إن الفعالية تقتضي، كذلك، مواجهة كل ما يعرقل النجاح والعمل الحثيث على تفادي المنافسة الهدامة والتخلي عن الأساليب الخاصة بالأفراد والمجموعات والقطاعات والأحزاب والتنظيمات في العمل وخاصة في كل ما يتعلق بالإضرار بالمصلحة العامة؛ حيث، حث الخطاب على ضرورة "تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة".
6- الكفاية: إذا كانت الفعالية هي عمل الأشياء الصحيحة، فالكفاية هي عمل الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة في ظل الحرص على الجودة و توخي تجاوز تحقيق الأهداف المرسومة إلى التجديد والابداع. ولهذا، فحرص الملك على تحقيق الكفاية يتجلى في التنويه بالابتكار والابداع وإعطاء الانجازات اهتماما كبيرا وتثمينها والإشادة بها. فالخطاب، أظهر أن الملك ينظر نظرة تقدير عالية للأشياء المجددة والإنجازات المبتكرة في كل المجالات والقطاعات والبرامج والمشاريع كما يتضح من خلال الحديث عن تشجيع "الاجتهاد والابتكار" وعلامة "صنع في المغرب" ومن خلال التطلع إلى أن تكون نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2030 بالمغرب "تاريخية على جميع المستويات" ومن خلال "الارتقاء إلى مرحلة جديدة وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى التي يستحقها المغاربة ما بعد وصول "المسار التنموي الى درجة من التقدم والنضج".
ولعل قيمة الكفاية كغاية لكل أداء وفي كل عمل لا تقتصر على إدارة تحقيق الجودة العالية والوصول إلى علامة "صنع في المغرب" فقط، وإنما تكمن، كذلك، في طرق أبواب مجالات غير مسبوقة تحقق للمغرب التميز كما هو الشأن في مجال الطاقات المتجددة أو فيما يخص مشروع "عرض في المغرب" في مجال الهيدروجين الأخضر. حيث، يدعو الخطاب الملكي إلى تنزيل هذا المشروع "بالجودة اللازمة" و"بما يضمن تثمين المؤهلات التي تزخر بها بلادنا، والاستجابة لمشاريع المستثمرين العالميين في هذا المجال الواعد".
7- المصداقية: إن تحقيق المكانة لأي بلد وترقيته وإعطائه وضعا أفضل بين الدول وخاصة في زمن يموج بتغييرات صعبة وحادة لا تقتصر على الحسابات المنطقية الميكانيكية لمقوم الفعالية في حد ذاته ولا لدافعية الكفاية بشكل خاص مهما توفر لها من الطموح والثقة والإمكانات المادية والموارد المالية والبشرية والتكوين والتدريب والتأهيل إن لم تكن مؤطرة ومدعومة بالمصداقية. فهاته الأخيرة ليست هرطقات كلام هنا وهناك ولا شعارات فارغة بقدر ماهي قيمة عاطفية وكيمياء إخلاص وحب والتزام وتعبير عن الانتماء والقيام بالواجب بمسؤولية وبمواطنة عالية في كل موضوع ومجال ومع أي كان. فالمصداقية فهي التي تقام على إرادة المساهمة والتعاون، وهي التي تأتي بالاعتراف الداخلي والخارجي، ولا يمكن شراؤها بالمال ولا بالشعارات. ولهذا، ينص الخطاب على كون "المغاربة معروفون، والحمد لله، بفعالية الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح".
ولعل قيمة المصداقية هي التي جعلت الخطاب يتحدث عن الإنجازات ويشيد بها كما يتطرق إلى التحديات ويعمل على تخفيف ضغوطها كما هو الشأن بالنسبة لمعاناة الأسر الفقيرة في ظل الجفاف والتضخم والغلاء أو كما هو الأمر بخصوص شجاعة التطرق إلى الاعتراف الإسرائيلي بمغربية الصحراء مع التأكيد، في الآن نفسه، على "موقف المغرب الراسخ بخصوص عدالة القضية الفلسطينية".
8- حسن إدارة البيئة: لا تترسخ قيم القيادة العليا في إدارة شؤون البيئة الداخلية من خلال صور ومواصفات ومبادئ وقواعد وضوابط القيم السابقة فقط، ولكنها تنتشر وتتعزز بحسن إدارة البيئة الخارجية للبلد على مستوى مختلف العلاقات وكل أشكال التفاعل وأنماط تدبير المتغيرات والمستجدات ونماذج صبر أغوار الأزمات ومواجهة التهديدات الخارجية ولاسيما المعقدة والعدائية منها. ذلك، إن الخطاب الملكي أظهر أن بُعد حُسنِ الدفاع كمقوم في التعاطي مع البيئة الخارجية بُعدٌ عقلاني ينهض على "التعاون والتواصل والتفاهم" وعلى كل مقتضيات تحقيق السلم والأمن بالحوار والحب والمشاركة الإيجابية كما تمت الإشارة إلى ذلك بخصوص ترشح المغرب إلى جانب إسبانيا والبرتغال لاحتضان بطولة كأس العالم لكرة القدم 2030 والتي تحدث فيها الملك عن الصداقة وعن رغبة توحيد ضفتي البحر الأبيض المتوسط وإرادة تحقيق "طموحات وتطلعات شعوب المنطقة".
وتَزكى هذا البعد العقلاني الناضج في حُسن إدارة البيئة الخارجية بخصوص إصرار الخطاب على إدارة وإخراج الخلاف الجزائري-المغربي من دائرة الصراع والعداء إلى دائرة الصداقة والأخوة والتهدئة. حيث، يقول الملك: "إن عملنا على خدمة شعبنا لا يقتصر فقط على القضايا الداخلية، وإنما نحرص، أيضا، على إقامة علاقات وطيدة مع الدول الشقيقة والصديقة، وخاصة دول الجوار. وخلال الأشهر الأخيرة، يتساءل العديد من الناس عن العلاقات بين المغرب والجزائر، وهي علاقات مستقرة تتطلع لأن تكون أفضل".
وقد اغتنم الخطاب الفرصة ليبعث رسالة مطمئنة جديدة للجزائر ويحتضنها بيد ممدودة مفعمة "بروابط المحبة والصداقة" وبطموح تمكين الشعبين الجزائري والمغربي من إمكانات تجديد الصلة وتوطيد الروابط بشكل طبيعي من خلال فتح الحدود بين البلدين في وجه الشعبين الشقيقين.
بيد، إن الرهان على حسن إدارة البيئة الخارجية يؤكد حسن استثمار الفرص لتوطيد العلاقات. فالمغرب الذي فتح صفحة جديدة مع الجارة إسبانيا بعد اعترافها بمصداقية الحكم الذاتي كحل واقعي لنزاع الصحراء، قد جعل من إنجاز المنتخب الوطني لكرة القدم في مونديال قطر فرصة مناسبة للانضمام لطلب إسبانيا والبرتغال لاحتضان مونديال 2030 رغبة في تجسير الصلة بين البلدان الثلاث وتقوية الروابط بين إفريقيا وأوروبا ثقافيا وحضاريا في إطار المنافسة البناءة والتكامل والتناغم.
9- التخطيط الجيد للمستقبل: لا يمكن فهم منظومة القيم في ارتباطها الأصيل والعميق بالثقافة القيادية الناجحة من خلال النظر إليها باعتبارها تَرتَهِنُ بتراث سياسي واقتصادي وإداري مرتبط بالماضي والتاريخ فقط أو بمقومات الفعل في الحاضر، وإنما بما هي دافعية دينامية للتحليل الاستراتيجي والتأثير في المستقبل. ذلك، إن منظومة القيم هي أرضية صلبة للتخطيط الجيد للمستقبل. كما أن القيمة الناجحة هي التي تسمح بإمكانية حسن التكيف والتلاؤم مع المتغيرات وتفتح باب الاستجابة السريعة في كل الظروف: إجابة عن الأسئلة المستجدة تخطيطا وتنفيذا وتنبؤا واستشرافا.
وقد أكد الخطاب ذلك حين أشار إلى ضرورة "فتح أفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى"، وحين أكد مكانة المغرب "كوجهة للاستثمار الناجح"؛ وكذا لما حث على "إشاعة الثقة واستثمار الفرص الجديدة لتعزيز صعود وانتعاش الاقتصاد الوطني" وما لذلك من صلة بـ"إطلاق مشروع الاستثمار الأخضر للمكتب الوطني للفوسفاط" و"تسريع مسار قطار الهيدروجين الأخضر" و"الدعوة للإسراع بتنزيله بالجودة اللازمة وبما يضمن تثمين المؤهلات التي تزخر بها بلادنا والاستجابة لمشاريع المستثمرين العالميين في هذا المجال الواعد".
خــــاتمة: يتأكد بالملموس، أن مفهوم الجدية الذي نحته خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الرابعة والعشرين لعيد العرش لهذه السنة (2023) ليس قيمة أحادية بقدر ماهي قيمة استراتيجية تعبر عن نسق قيمي شامل ومتكامل يجسد عقيدة للتصرف والسلوك تستند على مبادئ ثابتة ورؤية متماسكة الخيارات وذات مصداقية. ذلك، إن القيادة الناجحة تقوم على نظام قيمي أصيل واضح ومنسجم. وهذا لا يتحقق إلا للقيم المحترمة الكفيلة بجذب الناس إليها والمسعفة على تحقيق تناغم مكونات ومقومات العمل لما فيه صالح الأداء الاستراتيجي العالي والفعال.
لقد جعل خطاب الملك من مفهوم الجدية كلمة سحرية بالغة التأثير وكفيلة بتشكيل إطار مرجعي للسياسة الحكومية ولكل المؤسسات رسمية وخاصة. بحيث، أصبحت قيمة الجدية محددة لسلوك العمل وفي خدمة تحسين فاعليته. غير أن الخطاب أكد من جهة أخرى أن نجاعة القيمة لا تتحقق إلا إذا أصبحت معيار جوهر عمل كل فرد في الإدارة والمجتمع على حد سواء. ومن تمة، فقوة مفهوم الجدية تكمن في كونه يمثل قيمة معروفة ومفهومة من لدن كافة المغاربة، مما قد يعطيها قوة تمكينية لجميع المواطنين بنفس الإرادة والحماس.