AHDATH.INFO - حاورته سكينة بنزين أتاحت منصات التواصل الاجتماعي فرصة الوصول لقاعدة عريضة من الجمهور من طرف أصوات تمثل مشارب مختلفة، وفي الوقت الذي تحسب فيه بعض الأصوات على أهل الاختصاص، يفتح المجال بالمقابل أمام المئات من مستسهلي الخوض في الاختصاصات، سواء تعلق الأمر بالطب أو السياسية، أو الثقافة أو التجارة ...لكن يبقى للمجال الديني خصوصيته التي ترتبط في ذهن المتلقي بكون المتحدث ناقل أمين عن الله والرسول، ما يعني بالضرورة تحري الدقة واحترام التخصص والابتعاد عن شخصنة النقاشات، إلى جانب التحلي بالخلق الطيب والجدال بالتي هي أحسن، إلا أن عددا من المحسوبين على صف "الدعوة"، أو منتحليها في بعض الحالات، يساهمون في خلق أجواء من البلبلة الافتراضية، أو الترويج لخطابات متعصبة تروج لرفض الآخر المختلف، أو ترفض الانصياع لفكرة التخصص. جدل متجدد يخلقه عدد من الدعاة الذين يرون في أنفسهم أهلا للحديث في كل موضوع، فهل يمكن مبدئيا الوقوف عند تعريف للداعية، ولماذا أصبح اليوم أكثر شعبية من الفقيه والشيخ والمفسر؟ ـ الداعية هو من يتحمل مسؤولية الدعوة إلى الإسلام وفق أسلوب يراعي المتلقي ويتوجه إلى جميع الفئات في المجتمع، ويعطي لكل مقام مقالا ويلتزم منهج الحكمة والوسطية، فمسؤوليته لا تتعدى الكلمة والتبليغ. أما لماذا أصبح أكثر شعبية اليوم فلأن وسائط الاتصال الحديثة منحته فرصا أكبر للظهور والانتشار، منذ أن ظهرت الفضائيات في العالم العربي في بداية التسعينات من القرن الماضي. وهذه الظاهرة ليست قاصرة على العالم العربي والإسلامي، بل تشمل الدول الغربية والآسيوية والأوساط المسيحية العربية أيضا، إذ ظهر الدعاة الإنجيليون مثلا وأنشأوا قنوات فضائية ومواقع إلكترونية للدعوة إلى المسيحية.علاوة على هذا فإن الفقيه ليس من وظائفه الدعوة، فهناك فقهاء لا يتقنون فن الدعوة، لأن الدعوة فن وأسلوب وتتطلب ثقافة معينة لا تتوفر للفقيه دائما، مثل الرقائق وتبسيط الأسلوب ومخاطبة العامة، بينما مهمة الفقيه هي البحث في الأحكام، والخلاف بين الإثنين أن الفقيه لا يحتاج إلى الداعية، بينما الداعية في حاجة إلى الفقيه دائما، حتى تكون دعوته خاضعة لضوابط فقهية، كما يحتاج إلى المفسر، لأن الداعية ليس من الضروري أن يكون عالما بالفقه والتفسير. المتتبع لمستجدات العالم الافتراضي، يلاحظ أن عددا من المحسوبين على اختصاصات بعيدة عن الدين، يستثمرون ورقة الدين للترويج لأفكارهم أو مواقفهم سواء تعلق الأمر بجوانب علمية، أو حقوقية أو فنية أو طبية، فلماذا هذا التداخل في الاختصاصات؟ اليوم هناك فوضى كبيرة تجتاح مواقع التواصل وشبكة الأنترنت، لأن قنوات الاتصال فتحت فرصا أمام الجميع غير مسبوقة، بحيث صار الكثيرون يتحدثون في قضايا الدين الإسلامي من دون أن يكونوا على معرفة بها، وانخرطت تيارات دينية وعلمانية وإلحادية في هذه الفوضى لأن كل طرف يريد أن يُسمع صوته للناس. ولكن المسألة تتجاوز الأفراد، فمنذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية وظهور الجماعات الإرهابية المرتبطة بالإسلام، أصبح الإسلام متهما، فظهر الحديث عن الإصلاح الديني الذي يفهمه كل طرف فهما معينا يخصه، وهذا دفع المؤسسات والحكومات والمراكز الغربية إلى أن تصبح طرفا في النقاش المفتوح عالميا حول الإسلام، بحيث خصصت تمويلات ضخمة وتم تجنيد عدد من المثقفين أو الوجوه المعروفة في شبكة الأنترنت ومواقع التواصل للانخراط في هذا النقاش الذي تطبعه الفوضى، إلى درجة أن المؤسسات الدينية الرسمية أصبحت مهمشة ولم تعد قادرة على مسايرة هذه التحولات العميقة التي مست الخطاب الديني وميدان الدعوة. تفتح صفة " عالم دين" القوس على إشكالية كبيرة حول من له الأهلية في حمل الصفة، خاصة للمكانة التي تحظى بها في النص القرآني، فهل من ضوابط حتى لا تبقى العبارة فضفاضة حيث يُدخل المتلقي تحت خانتها عددا من الدعاة؟ المشكلة في الإسلام أن صفة عالم الدين ليست صفة قابلة للاحتكار، كما هو الأمر في اليهودية أو المسيحية أو الطوائف الدينية الأخرى مثل البوذية أو الهندوسية أو السيخية، فكل من لديه القدرة على الحديث في الإسلام يمكنه ذلك، لأنه لا توجد سلطة معينة أدبية أو قانونية يمكن أن تمنع الناس في الحديث في الإسلام. وهذا الأمر له وجه إيجابي وآخر سلبي، فالوجه الإيجابي يتمثل في انفتاح الإسلام والتشجيع على الاجتهاد وإبداء الرأي والانخراط في قضايا المجتمع الإسلامي دون إقصاء، لأن وجود سلطة معينة تمنع الناس من الحديث في الدين وتضع شروطا محددة سيحول الإسلام إلى سلطة بيد فئة معينة، وبالتالي سيصبح هناك نوع من الاستبداد باسم الدين، فنقع في النموذج الكنسي المسيحي، فمجال الحديث في الإسلام مفتوح، والرسول يقول "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وكلمة أمر هنا تهم جميع الأمور، من الدين إلى السياسة، فهذا الوجه الإيجابي يكشف الجانب الديمقراطي في الإسلام. أما الجانب السلبي فيتمثل في الفوضى التي تنتج عن تدخل أي شخص في الحديث باسم الدين، حتى من الجهال كما نرى اليوم في عدد من الحالات، لذلك لا توجد ضوابط معينة يمكن الالتزام بها سوى ضابط الضمير. ولكن المشكلة بالنسبة لي ليست في غياب الضوابط، بل المشكلة في وجود من يهاجم الإسلام ويشكك في الثوابت المعروفة عند المسلمين، فالخلافات في الدين مقبولة وقد كانت دائما موجودة في التاريخ الإسلامي، لأنها خلافات داخل نفس العقيدة، لكن المشكلة في استهداف هذه العقيدة والمس بالأصول الكبرى.استنادا على لغة أرقام المشاهدات، يلاحظ أن عددا من الدعاة الذين يتبعون الخطابات العاطفية والمتشنجة، يحظون بمتابعات كبيرة، مقابل الخطابات الرصينة والهادئة كتلك التي تمثلها الكراسي العلمية في مختلف التخصصات، والتي تحقق مشاهدات متواضعة، فهل يعني هذا أن الخطابات المبنية على علم حقيقي لا تتوفر على الجاذبية المطلوبة؟ كما يختلف الناس في الفهم والتلقي يختلفون أيضا في الأذواق، هناك من تحركه العواطف وهناك من يميل إلى الأفكار، ولكن الغالب على الأكثرية هو الميل إلى الإثارة، لأن كل ما جديد مثير، وكل ما هو مثير مرغوب فيه. ولكن هذا الأمر يجعلنا أمام ضرورة تطوير أسلوب الدعوة المبنية على العلم والحكمة والعقل لسد الباب أمام الخطابات العاطفية المتشنجة، وعلى العموم، ففي النهاية لا يصح إلا الصحيح، فهذه الخطابات سرعان ما يزول مفعولها مع الوقت، خاصة وأنها لا تستهدف سوى فئات معينة من المراهقين أو الذين لا دراية لهم، فنحن في عصر التواصل الذي هو عصر تدافع بين الأفكار، ولا يمكن مصادرة حق الناس في التعبير عن الرأي، مهما كان نشازا وخارج الإجماع. وللأسف هناك غياب للحوار، لأن كل طرف يعبر عن رأيه بعيدا عن الطرف الآخر وكأن هناك قطيعة أو عداء، وهذا موجود بالفعل، ولكننا نفهم أن اختلاف الرأي يجب أن يدفع إلى الحوار والمناظرة، لا أن يجعل كل طرف منغلقا على نفسه. في النقاشات التي تخلقها بعض الجدالات المثيرة التي يفتعلها الدعاة، نلاحظ غياب التفاعل أو التعليق من أصوات تمثل المؤسسة الدينية الرسمية، أو حتى باحثين في الشأن الديني مشهود لهم بالكفاءة العلمية، هل يترجم الأمر ترفعا عن جدل عقيم، أم اعتقادا بأن الأمر لا يتجاوز وجودا افتراضيا لا امتداد له على الساحة؟ نعم، هناك عزوف من المؤسسة الدينية الرسمية في المغرب عن الخوض في النقاشات الدائرة حول الدين في المجتمع، ولكني أرى أن هذا العزوف إيجابي، لماذا؟ لأن هذه المؤسسة الممثلة في المجلس العلمي الأعلى هي مؤسسة رسمية تابعة للدولة، ويرأسها الملك بوصفه أمير المؤمنين، والمطلوب فيها الحياد لأن المفروض أنها تمثل الجميع، وهي لا تتدخل إلا في القضايا العامة التي تهم الأمة وتفترض الإجماع. وكما قلت سابقا، لو أن هذه المؤسسة تحولت إلى رقيب على الدين فإنها سوف تتحول إلى سلطة تحتكر الحديث باسم الإسلام في مختلف الأمور، وهذا سوف يحد من حرية الرأي، وقد يحولها إلى مؤسسة في مواجهة المجتمع نفسه من خلال العلماء والدعاة، فهذه المؤسسة لا تمثل جميع العلماء ولا جميع الاجتهادات، ولكنها تمثل خط الدولة الرسمي، إنما أعتقد أن مسؤوليتها في هذا الجانب تتمثل في تحديد سقف الحديث عن الإسلام من حيث الضوابط العقدية، والحد من ظاهرة الطعن في العقيدة والثوابت، لأن هذه الثوابت هي في النهاية ثوابت الأمة المغربية التي تعتبر هذه المؤسسة راعيا لها من الناحية الدينية.* الدكتور إدريس الكنبوريمفكر وباحث