لو كان للموت أن تختار من كلام خالد صالح في أفلامه، جملة تقولها له قبل أن تنجز مهمتها، فستكون في نظري جملته في فيلم الريس عمر حرب، حين يقول لهاني سلامة، «أنا اصطفيتك، هتروح علي فين؟ العالم ده كله بتاعي».

لكن الموت لا تختار الكلام، كما أرى أنها لا تختار الناس، و لا تنظر اليهم حتى، هي تأتي و تقوم بترحيلهم من الدنيا و.. فقط.

اذا تم قياس الأمر بالموهبة، فالأكيد أن خالد صالح مكانه مازال هنا، و اذا قيس الأمر بالثقافة، فالطبيعي أن يكون خالد صالح هنا، و اذا قيس بالابداع، فمكان خالد صالح هو أمام الكاميرات، بالقطع و الجزم التام و البت المطلق.

خالد صالح فنان عبقري، موهوب بشكل خرافي، يجعلك تقتنع بأداءه بيسر، لأنه صادق في تعبيراته، ممثل يحتفظ ذهنك بصورته دون أي جهد، و دون وساطة، ولا توسل، انسان ذكي، يقدم أدوارا معقدة، بطاقة و روح و مشاعر، و سلاسة و بساطة و احساس وافر، انه بالنسبة لي، التشخيص الكلي لمقولة السهل الممتنع.

يقول خالد صالح في فيلم هي فوضى، «البلد دي فيها قانون واحد.. قانون حاتم»، ثم يؤكد لمن لم يفهم، «انتوا فاكرين البلد فوضى! البلد دي فيها حكومة، والحكومة دي هي أنا»، و كنت دائما عندما أعيد مشاهدة الفيلم، أتسائل دائما عن قدرة ممثل آخر على تأدية هذا الدور بكل هذا التألق، في نهاية الفيلم تكره حاتم كرها شديدا، لكنك تحب خالد صالح أكثر.. و تتذكر دائما عندما تشاهده، جملته في هذا الفيلم، «اللي ملوش خير في حاتم.. ملوش خير في مصر» ، و تبتسم، رغم أن الجملة اختصار مر لواقع أمر.

ليست هذه الجملة هي التي تجد لها مكانا في ذاكرتك بدون مقاومة، بل ان عقلك يرحب بالمزيد عندما تشاهد الفيلم الرائع أحلى الأوقات، و يستمتع بالحوار القائم بين ابراهيم و يسرية، و هند صبري تعلم أن ابراهيم «مش هيجيب ورد تاني يا يسرية».

في فيلم «عمارة يعقوبيان»، جاء «صالح» في دور سياسي فاسد، و قدم أداءً مميزا، حيث شارك بدور كمال، القيادي في «الحزب الوطني»، و قد دار حوار بينه وبين الفنان نور الشريف، رجل الأعمال الذي يرغب في الترشح لمجلس الشعب.

ومن أقوى الجمل التي قالها خالد صالح في هذا المشهد: «إحنا في بلد ديمقراطي، واللي عايز يرشح نفسه يرشح، الترشيح ده أمره سهل بس ينجح إزاي دي لعبتنا إحنا بقى، مش تزوير لا سمح الله.. لأ، بس زي ما تقول كده إحنا دارسين نفسية الشعب المصري، الشعب المصري كله ماسك في ديل الحكومة كأنها أمه اللي خلفته، حتى لو الحكومة دي ماشية على حلّ شعرها.. شغلنا بقى!».

وقال خالد صالح في هذا الفيلم جملتين دائمًا ما نسمعهما يترددان على لسان المصريين وهما: «اللي قدامك دا يقدر يقوّم البلد ويقعدها تاني» و «أنا مبعرفش أرسم غير حاجتين.. يا أرنب يا ديك رومي».

بعد سماعك لخبر موته، تقول من شدة الحنق، خالد صالح كان سياسيا فاسدا، لكنه لا يستحق الموت.

من أفضل المشاهد التي صورها خالد صالح كذلك، جاءت في فيلم «فبراير الأسود»، عندما تحدث عن الأوضاع الاجتماعية داخل مصر.

ويظهر في المشهد خالد صالح وأمامه عدد من الدكاترة والعلماء والمهندسين يقول لهم: «دي خريطة للأوضاع في مصر، في ظل المأساة التي تعيشها البلاد، محدش يقدر يعيش مطمئن على بلده وأسرته إلا الـ3 دُول».

ويضيف: «الـ3 منظومات: الجهات السيادية بأنواعها الحكومة والمخابرات بأنواعها، ومنظومة العدالة، القضاء النيابة والشرطة، ومنظومة الثروة (رجال الأعمال)، المنظومة الثالثة دي تتعامل وتقدر تشتري المنظومتين دُول».

ويتابع: «دول اللي يقدروا يناموا ويطمنوا إن محدش يقدر يأذيهم، ونقدر نقول عليهم دول الفئات الآمنة ليوم الدين».

و يوضح: «أما اللي زينا العلماء والدكاترة، مرشحين ناخد بالجزمة في أي وقت، فلا قيمة لنا في هذا الوطن».

هذه الأقوال تذكرها كثيرا ثوار مصر، و كما كان فيلم هي فوضى قد تنبأ بثورة 25 يناير بشكل مبهر، كان لأداء خالد صالح في فبراير الأسود وقعا على كل من خبروا خلفيته الفلسفية في الحياة و مواقفه السياسية و مرجعيته الثقافية.

نتذكر هنا و قد رحل عنا صوته، و هو يأمل في رؤية نتائج ثورة المصريين، يلقي قصيدة تقول:

بتوع الثورة عاوزين إيه، وليه الثورة مخلصتشي

صبرنا كتير، تعبنا كتير، ولسه الناس ما مشيتشي

شوارع سد، ميدان مقفول، وزادت زحمة على زحمة

لاحط الزيت فى طبق الفول، ولا رخصت لحمه

ولسه كلنا بنشقى، ولسه كلنا غلابه

ما نابنا منها غير الغاز، وصورة جنب دبابة

معدش الظلم يخرسنا

مفيش عيل هيورثنا

معدش المصري بيطاطي خلاص صوته بقى مسموع..

ولو حاكم طلع واطى هايصبح عندنا مخلوع ..

ولو كنا قبلنا زمان نعيش وضهورنا محنية ..

أنا الثوره جابتلي ميدان .. يا أموت يا أعيش بحرية..

 

لو كانت الموت تسمع لأحد، لقلنا انها ربما قد سمعته، لكنها لا تسمع أحدا، و لا تنظر الينا حتى، هي تأتي و تقوم بترحيلنا من الدنيا و.. فقط.

شادي عبد الحميد الحجوجي