AHDATH.INFO - خاص - سعيد نافع

على امتداد الثلاث عقود الأخيرة لقبها البيضاويون ب ‘‘ الكاورية مولات لكلاب ‘‘. في زمن مضى لم يكن أحد يعرف من أين أتت هذه المرأة ذات السحنة الأروبية واللسان المعوج الذي يلوك كلمات فرنسية ممزوجة بلغة أخرى لا يعرفها أهل العاصمة الاقتصادية. صيفا، شتاء، ظلت هذه السيدة وفية لهندامها المتواضع وصمتها المطبق الطويل، ومشهدها المتكرر الذي تتقدم من خلاله قطيعا من الكلاب. من بن جدية إلى آنفا العليا، ومن سباتة إلى الصخور السوداء، حازت إعجاب السكان والمارة في صمت، وكانت تتلقى إعاناتهم في شكر صامت لا تعبر عنه سوى بالعينين، وابتسامة خافتة ترسمها في جانب شفتيها اليابستين. ولأن المخيال البيضاوي أرض خصبة لترويج الإشاعة، فقد قيل عنها الكثير. فمن قائل بأنها فقدت صوابها في جواز فاشل في بلادها الأصلية وأن هذا الفشل تسبب في إصابتها بخلل نفسي جعلها تقصد المغرب وتستقر فيه وتجد في معاشرة الكلاب ضالتها. ومن قائل بأن العجوز الأوروبية هاربة من أحكام قضائية ومتخفية في شكلها الغريب. ومن قائل بأنها أضاعت مالها وجاهها في القمار وأنها تعوض حظها العاثر في الإحسان للكلاب ...

ماريس فالكنهورست ، وهذا اسمها الحقيقي كما ورد في محاضر الوقاية المدنية بمقاطعة مرس السلطان التي أكدت نبأ وفاتها قبل ثلاثة أيام، ألمانية المولد والنشأة، من مواليد العام 1946، جاءت إلى المغرب وتحديدا الدارالبيضاء سنة 1984 بدعوة من عائلة مغربية صديقة لزيارة المدينة ثم العودة إلى بلادها مجددا . غير أنها سقطت في هوى الناس والشوارع والأزقة والأحياء القديمة بعمرانها المختلف وعبق التاريخ المنبت فيها. في لحظة ما قررت المكوث في هذه الأرض الطيبة، وقطع صلتها النهائية ببلادها الأصلية ألمانيا. ولأنه كان لا بد لها من البحث عن مصدر للعيش، فقد تقلبت ماريس في مهن مختلفة بين وكالات الإشهار الوطنية والأجنبية وشركات التأمين، واتخذت من مركز المدينة ‘‘ السنطر فيل ‘‘ كما يتداول في دارج البيضاويين، مقاما لها. بعد سنوات العمل الطويلة، قررت ماريس التخلص من قيود المهنة والإقبال على الحياة بشكل آخر، من منظور مختلف تماما، يعكس مفهوم الحرية في أعمق صورها، وربما كان لقرائتها الدينية وتشبعها بأفكار الفلسفة البوذية دور كبير في هذا التحول .

هامت في الأرض بين أحياء الدار البيضاء لا تلوي على شيء، سوى السير في الشوارع والأزقة بمعية أجيال متعاقبة من كلابها، متتعدة الأصول والأعراق. لم تهتم كثيرا بسخرية الآخرين التي وصلت حد ‘‘ البسالة ‘‘ في الكثير من الممرات، خصوصا من قبل المتشردين والأطفال والمراهقين. في غير ما مرة كانت ترد على الإساءة بالكثير من الشتائم باستعمال لسانها الأصلي ‘‘ الألماني ‘‘ الذي لا يفهمه سوى النزر القليل من بني جلدتنا، أو بالفرنسية المتلعثمة. وفي مرات عديدة ردت الرشق بالحجارة الذي استهدف كلابها، برشق مماثل. لقد استماتت ماريس في الدفاع عن كلابها، في مجتمع كان ولا يزال، ينظر للاختلاف بالكثير من الرفض والاستهجان. في لحظات الهدنة داخل المجتمع البيضاوي، كانت تتلقى أيضا الكثير من التشجيع والمساعدات من أفراد وعائلات خبرت سنوات معاشرتها للكلاب طويلا. في سوق بن جدية وأسواق درب السلطان تمكنت ماريس من عقد شراكات غير مكتوبة مع أصحاب محلات للجزارة وبائعي الدجاج ومتخصصي أغذية الكلاب، من أجل تمويل مستمر ودائم. فيما عدا ذلك، كانت ماريس الممول الأول لكلابها وجرائها، وحتى قططها الكثيرة التي لم تكن تبارح محل سكناها. فماريس لم تكن معيلة للكلاب فقط، بل القطط وكم كانت تحبها أيضا .

ليست هذه أول مرة يذاع فيها نعي ‘‘ الكاورية مولات الكلاب ‘‘. فقبل أشهر شاع نبأ وفاتها في الأوساط البيضاوية متأثرة بجراح في حادث اعتداء جسدي عليها من شاب متشرد . وسرعان ما ظهر بطلان الخبر بعد أن عادت ماريس للظهور مع  كلابها في أماكن متفرقة من العاصمة الاقتصادية. والحقيقة أنها فعلا تعرضت لاعتداء من طرف أحد المختلين بالشارع في منطقة آنفا، لكنها لم تصب سوى بأذى بسيط . لمن تعرفهم وتكلمهم دون حرج، عبرت ماريس عن استغرابها للاعتداء ودوافعه، وتأثرها بإمكانية وصوله إلى الحد الذي يمكن معه لأحدهم أن يتصرف بهذا السلوك رغبة منه في الاستيلاء على أكل الكلاب، أو بالأحرى من فضل من لحم كانت قد حصلت عليه من أحد الجزارين أصدقائها. الاعتداء لم يثنها عن الاستمرار في أداء مهمتها النبيلة في رعاية حيواناتها الأليفة والوديعة.

الحق أن الخلط بين شكلها الخارجي الذي كان يوحي للبعض بأنها مشردة وهائمة، وبين أسلوبها في العيش الذي كان يقترب من الزهد، شكل الدافع الأول لهذه الاعتداءات. أسلوب حياة تقول ماريس أنها استوحته من الثقافة والفلسفة البوذية، التي تفسر العالم على أنه مكان للعطاء والتضحية أولا، وليس لتحقيق الرغبات على خلفية مبدأي اللذة والألم. البوذية تخلص معتنقيها من الاهتمام بالمظهر لأنها تعتبره غير ذي قيمة، كما تحثهم على ارتضاء القليل في المأكل والمشرب لتحقيق توازن البدن فقط لا غير، دون إسراف. في البوذية، الديانة المسالمة بامتياز، وجدت ماريس ظالتها الوجدانية، وقررت اعتناقها بعد قراءات معمقة . ماريس كانت تحترم كل الأديان وتقول أن اختلافها رحمة وحكمة، بدءا بديانتها الأصلية ‘‘ البروتستانتية ‘‘ ومرورا بالإسلام، الذي قرأت كتابه ‘‘ القرآن ‘‘ في غير ما مرة وكانت تجد سعادة كبيرة في قرائته، مع تأويله حسب مفهومها الخاص للحياة والكون والعلاقات البشرية. قرأت ماريس باقي الكتب السماوية أيضا، ووقفت على نفس المسافة منها، إلا أن البوذية كانت خلاصها الروحي الذي جعلها تزهد في نمط العيش الاستهلاكي العادي، وتستمر في رعاية الكائنات التي تقاسمت معها، البيت واللقمة.

كانت ماريس تستشعر الهدوء الكامل والراحة النفسية في محيط مسجد الحسن الثاني، لطالما شكل هذا الموقع ملاذا يوميا لها. في رمضان كانت تكن له تقديرا خاصا، خصوصا ساعة الإفطار، بهالته القدسية وانسياب السكينة في رحابه . في الحوار الوحيد الذي أجرته معها إحدى المواقع الالكترونية البيضاوية، قالت ماريس أنها لا تجد في الدارالبيضاء مكانا أكثر أمنا وقيمة من مسجد الحسن الثاني. أما عن الأحلام، فقالت ‘‘ ليس لدي أحلام اليوم ... الأحلام أتركها للفتيات الصغيرات هن أحق مني بها ‘‘.

ماريس تركت أيضا كلابها وقططها وهي تسلم الروح مساء الأحد الماضي لمصير مجهول، ولعلها تبحث عنها منذ ان استفاقت على غيابها . فبعد وفاتها، وحده عويل الكلاب الحزينة سينتشر بين الأرض والسماء، كموسيقى تأبين أخيرة لماريس فالنكهورست ... العطوفة والرحيمة .