AHDATH.INFO – خاص - بقلم عيسى ناصري

1

جَرْوُنا هذه الأيام بدأ يفهم لغة الفرنسيس.يا لروعتك يا "جاك"، لكم أتسلّى بذكائك الذي تحسدك عليه الكلاب، أقول لك في غمرة مَرَحِك الطّفولي آمٍرا:« Viens »فتأتيني بلهفة« Asseyez vous »فتقعى على مؤخرتك مستندا على قائمتيك الأماميتين وذيلك من تحتك يوطوط باستمرار.« Debout »فتقف، وكثيرا ما يذهب بك الغرور إلى تقليدي بالوقوف على اثنين في لقطة أصرخ لها إعجابا.ولمّا تستلقي كاشفا أشياءك في صفاقة أنهرك:« Ramassez _ vos affaires »فتلملم أطرافك بسرعة، وتضمّ ذيلك بين قائمتيك الخلفيتين مُظهِرا خجلا خرافياأعيد مُخاطبة جَرْوي، فيعاود الحركة المناسبة لعباراتي المحدودة. في الحقيقة هذا كل ما أعرفه في الفرنسية. بل هذا ما تعلّمته إلى حُدود الآن من لالّة البَتول في مدرسة قريتنا. عبارات حفظتها عن بطن قلب، من فرط تكرارها لها.  حتى "جاك"، سمّيتُه هكذا لأن معلمتنا "الكريمة" لا سامحها الله، قبل أسبوعين، ذكرت اسم "جاك" في جملة غير مفيدة لم أفلح في ترديدها بطلاقة، فنالت مني ب"الفلاقة"، بعَصاها المحدودبة التي تشبه ثعبانا ميتا. لقد كُنت أنطق: "جاك" .. وأصمت، "جاك" .. وأصمت، صراحة حينها كنت أنتظر المعلّمة أن تُكْمِل لي الجملة فأفهم، كأن تقول سائلة مَثلا: " جاك الجُّوع، جاك البْرد، جاك البُول".. كثيرا ما يجيؤني هؤلاء الثلاثة دفعة واحدة وأنا مسجون في حصة الفرنسية كعفريت سيدنا سليمان، أووه الجوع والبول كانا الأقسى، أضع يدا على بطني  والأخرى على متانتي وأنتظر عبارة« Ramassez vos .. et sortez » 

2

   "جاك" لا أُمّ له، مثلي تماما، وجدته في طريق عودتي من المدرسة يئنّ من البرد، أعطيته حصتي من خبز المَطعَم، وحملته إلى البيت. اعتنيت به على رغم أنف زوجة أبي مّي حادّة. هي لا تُحبّه، تسميه ب "البْلا"، وهو الاسم نفسه الذي تناديني به لمّا أقترف جُرْما في حقّ الصّواب. "سير الله يعطيك البْلا"، أنا الذي لا يُبلي البَلاءَ الحسن في المدرسة، ولا أبالي. أعرف أنها لا تُحِبّني، لأنها كلّما رأتني ألاعِب "جاك" تنهرني وتقول إنّ أمّي ماتت بداء الكِلاب. زوجة أبي هي المسعورة، بِها سعار الكراهية و الغيرة من أمّي ولو وارتها الثرى. لا أخفي أني كنت أرتعِب مِن سماع تَهاويل الكلاب المسعورة. ولو أنني كنت أتمنّى أن أصادف واحدا مِنها، ولو ميّتا، لأرى شكله وحجم أنيابه التي تقطر سُمّا كما يصِفها لي سفيان ولد غيتة العْرْجة. 

3

      وأنا في منتصف الطريق تنبّهت إلى أنّ جاك يقتفيني إلى المدرسة، لم يكن ممكِنا إعادته إلى الدار، كنت قد ابتعدت، قد أتأخّر عن حصّة الفرنسية وتجلِدُني لالة البتول. عصاها المُحدودبة تُرعِبُني، لا يَنجو مِنها إلّا أصحاب الهدايا: بيض بلدي، فاكهة طازجة، سمن حائل، قارورة لبن خاتر.. وأنا بِبَاب المدرسة فكرت أن "جاك" سيَضيع لو تركتُه خارج السور، أو يعتدي عليه كلبٌ ضالّ أو مسعور. فتَحتُ مِحفظتي فأودعتُه فيها ودخلتُ القسم. تَحدثتُ سِرّا إلى سفيان ولد العرجة جاري في الطاولة، عن مغامرتي، لكنّ اللئيم فضحني مع أول جملة مفيدة يركبها بالفرنسية في حياته. رفع إصبعه بصفاقة..، نطق متلعثما وهو يشير بسبابة الشّبهة إلى محفظتي المُنتفِخة:Le chien .. dans le cartableجاءتني لالة البتول تتبعها نقرات حذائها على الأرضية المبلطة، كان كعبها العالي  المبرود كرأس قلم رصاص، يدعس صدري الخافق. وقبل أن تستفسرني، انتصبتُ، وبإلهام وجُرأة لم أدرِ من أين أتياني قلت:ــــ أتيتك بِالجَروِ هَديّة.ابْتَلَعتُ استغرابَها، واستأنفتُ:ــــ زوجة أبي لا تعطيني ولو بيضة واحدة لآتيك بِها، تقول ظُلما إنّ "جاك" هو مَن يأكُلُها في الخُمّ. عيسى ناصري   المؤلفات