أحداث ديكالي

هل يجوز قول هذا لا يجوز .. عندما نشغل أنفسنا بتعقب أرواح الناس بعد وقوفها بين يدي خالقها

سكينة بنزين الجمعة 13 مايو 2022
شرين أبو عاقلة
شرين أبو عاقلة

AHDATH.INFO

غابت التسريحة الأنيقة المسيجة لملامح تبدو مهادنة، والتي شاء القدر أن ترحل بعد أن لثم ثغرها تراب الأرض المباركة، ذات رصاصة غادرة أصمتت صوتا خمسينيا أعفي من تجاعيد الزمن لخدمة الخبر.

شرين أبو عاقلة لم تكن الدم الأول، ولن تكون الدم الأخير الذي يسفك غدرا فوق بلاط صاحبة الجلالة داخل البؤر الأكثر توترا في العالم، بعيدا عن تغطيات الغرف المكيفة ولقاءات المجاملات والمداهنات، وفي الوقت الذي اعتقدنا أن مشهدا محزنا لروح تسللت من جسد صاحبها بعيدا عن سرير يحيطه الأحبة، كفيل بأن يوحد مشاعر حزن يحكمها ميزان الانتماء الإنساني الذي يرعبه ثقل الرحيل، حين يغافل غريزة البقاء وعشرات الأماني المعلقة التي لن تعرف طريقها للتحقق، صدمنا بمن يصادر حق الناس في الحزن والدعاء، وطلب المغفرة.

لقد قالوا للناس أنه من غير الجائز أن يتمتموا دعاء يزيح عن النفس ذلك المشهد الثقيل، لسيدة تفارق الحياة وحيدة على بعد سنتيمترات من زميلة أرعبها الاقتراب،وزملاء ترددوا قبل أن يركضوا نحو جسد تخلى في يسر عن روحه ... أكيد أن الفيديو الذي تم تناقله يوثق لتفاصيل أكثر، لكن من أين لك بقوة تعينك على معاودة مشاهدة ذلك القبح الذي غطى عليه قبح أثقل أزاح النقاش عن سياقه.

لقد كان من المفترض أن تتوحد التدوينات للإدانة، وطلب العدالة للراحلة،والدعاء لأهلها وأصدقائها بالصبر والثبات عند مشاهدة ذلك الرحيل الثقيل، وتوثيق المزيد من تجاوزات جيش الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، لكن بدون سابق منطق ولا تعاطف، وفي خطوة تبعثر أبجدية الأولويات، خرج من يطالب الناس بالكف عن الدعاء لـ"كافرة"، وتم من جديد إشهار ورقة "لا يجوز" في وجه متعاطفين لا يكترث بعضهم لميزان "الجائز من غيره"، وهذا واقع يجب على البعض أن يدركه حتى يتخلى عن تشنجه حين يصادف جهات مقابلة تسبح ضد تياره، أو تختلف عنه بنسب متباينة.

وبكل التجرد الممكن، يمكن القول أنه من حق من لا يرغب في الدعاء لمن هو على غير دينه ومذهبه ولونه وقبيلته وذوقه و ما يخالج هوى في نفسه .. أن يحتفظ بدعائه في صدره لحين تصريفه لمن يراه "مستحقا" له، ففي نهاية المطاف لا يمكنك إجبار الناس على التعاطف والمحبة والمساندة بعيدا عن ضيق الانتماءات، لكن المشكل كل المشكل، هو أن تعلن الحرب على من أراد اختيارا غير ذلك، خاصة أن بعض التعاطف يتولد بدون تفكير في "تأصيله" شرعا حين تنفلت المشاعر إنسانيا فوق أي انتماء، وكان للأمور أن تمر دون أن يزحزح هذا الدعاء بالرحمة والمغفرة ما يراه البعض "مقدسا"من مكانه، أو يحول "الحرام إلى حلال" كما ادعى البعض، وكأن أركان هذا الدين قائمة على تعاطف شئنا أم أبينا سيكون "عابرا" كسابقه ليلتهم النسيان الراحلة كما التهم من سبقها رغم العبارات المنمقة التي تصاغ تحت الجملة الرنانة "لن ننسى" ...

بعيدا عن حديث الحلال والحرام، والجائز من عدمه، وغيرها من الأحكام التي يتحرى المسلم عدم القفز عليها واستسهالها على غرار ما يفعل "دعاة" مواقع التواصل، لا بأس من الحديث عن استحضار السياقات، ووزن الكلام، والارتكان إلى الصمت حين يكون بعض القول صادما .. فما معنى أن يمعن البعض في تتبع تدوينات المتعاطفين ليذكرهم أن الكافر مخلد في النار، في الوقت الذي لم يوارى فيه جثمان الراحلة الثرى، بل إن العدسات تناقلت مشاهد قاسية لمطاردة قوات الاحتلال لنعشها داخل أسوار المستشفى بعد جريمة اغتيالها، في الوقت الذي تعج به مواقع التواصل بنقاش لا طعم له حول جواز الدعاء من عدمه على روح أمرها موكول الآن إلى الرحمان الرحيم.

إن حديثا كهذا فرصة لسحب الكثير من المواضيع الحساسة والمثيرة نحو دائرة الضوء لرفع الالتباس، والخروج من خانتي الـ "مع" أو "ضد" التي يتوهم البعض أنها الطريقة الوحيدة لحسم أي نقاش، أو التعنت في فرض "نصيحة" تفتقد لآدابها الشرعية، ولا تراعي سياقات عدة ينصهر فيها الإنساني بالثقافي والسياسي، ومن المثير للاستغراب أن يسخر البعض من ذلك "السند" العاطفي الذي حرك قلوب الكثيرين وألسنتهم بالدعاء لسيدة اخترقت رصاصة رأسها، دون السؤال عن دينها أو انتمائها السياسي أو خلفيتها الفكرية ... لأننا بكل بساطة لا نحتاج إلى تعقب أرواح الناس بعد وقوفها بين يدي خالقها.