السياسة

الديبلوماسية الملكية : كسر طابوهات الماضي لريادة إقليمية وعالمية

سعيد نافع السبت 29 أبريل 2017
Capture-d’écran-2016-10-28-à-04.09.08
Capture-d’écran-2016-10-28-à-04.09.08

AHDATH.INFO - أحمد الشرعي

 

الملك محمد السادس يحل في كوبا مرفوقا بعائلته، والزيارة تتوج بتطبيع العلاقات بين البلدين بعد 37 سنة من القطيعة. قبل ذلك، حل الملك تباعا في زامبيا، البلد المعادي للمغرب لعقود طويلة، و نيجيريا ودول أخرى. وهي زيارات تستوقف المحلل السياسي طويلا.

وراء هذه التنقلات، تكمن استراتيجية دولة، تتمحور على ثلاث مرتكزات أساسية،  متناسبة للغاية، وإن كانت لا تبدو كذلك للوهلة الأولى، وتشكل رؤية واقعية للمستقبل التي يجسدها العاهل المغربي، كما تتطلع إليها المؤسسات الوطنية .

المحور الأول يتمثل في الإقبار النهائي لعالم التصادمات الإيديولوجية. قضايا التعاون المشترك والحكامة الجيدة، والاستجابة للتطلعات الاجتماعية للشعوب،  هي  التي تستأثر بالاهتمام اليوم . و الإيمان بجسامة هذه المسؤوليات، خلال العقود القادمة هو ما تتمأسس عليه الديبلوماسية المغربية. التضاد، الموروث عن الحرب الباردة يحتضر اليوم .

المحور الثاني، الذي يعتبر مدخلا للعودة إلى الاتحاد الافريقي، يتجسد في التعامل مع هذا الإطار القاري كفضاء لم يعد بإمكانه احتضان الندوات الجوفاء، بل كمنظومة  تسعى  إلى الاستجابة لتطلعات الشعوب الافريقية، عبر البحث عن سبل التنمية والاستقرار، تاركا حل النزاعات للمنظمات الإقليمية أو هيئة الأمم المتحدة، والتركيز على بلورة صور التعاون المشترك .

المحور الثالث والأخير، يرتبط بصورة المغرب ، التي يضعها عاهل البلاد على رأس أولوياته . المملكة تقدم نفسها للعالم كبلد عصري، فخور بأصالته وجذوره، وقادر على اقتراح  تصوره للتعاون جنوب – جنوب، بل وتجسيده على الأرض .

يحرص الملك في كل زيارة إلى افريقيا على توقيع اتفاقيات يهتم شخصيا بتتبع مراحلها المختلفة. ولكنه يقدم المثال بشخصيته أيضا. أمير المؤمنين، رجل يعيش عصره. مظهره، واختياراته في ارتداء الأزياء العصرية، رسالة ثقافية لشباب كل الدول التي يزورها. إنه رجل يحمل على أكتافه ثقل مؤسسة تستمر منذ 14 قرنا، ويحمل معه رغبة حثيثة في الانتماء لعالم اليوم، و لعل الإقبال الجماهيري المتكرر على الفضاءات التي يحل بها خير دليل على أن الرسالة قد وصلت. دبلوماسية حكيمة،رزينة، متعددة الأقطاب، ومبتكرة، شرعت في تحقيق المكاسب على الرغم من الطموح الذي يكتسيها أكبر من ذلك بكثير. إنها تسعى لجعل المغرب لاعبا دوليا، في العالم متعدد القطبية الذي ترتسم معالمه اليوم. زخمنا التاريخي، واختياراتنا، تؤسس للأمل وتسمح لنا بتبني هذا الطموح .

 

 

ثورة الرؤية المستقبلية

كوبا والمغرب بلدان صديقان. من كان يتصور أن يأتي يوم ويصبح فيه هذا التقارب ممكنا ؟

في كوبا ‘‘ فيديل كاسترو ‘‘ دأب قادة البوليساريو على إرسال أجيال من أطفال مخيمات تندوف لتحويلهم إلى أطفال – جنود . لهذا السبب ، وأسباب أخرى عديدة، وضع العداء المعلن من كوبا على المغرب، حاجزا نفسيا أمام أية إمكانية للتطبيع، واعتقدنا جميعا أنه ما من سبيل لاجتيازه. ومع ذلك، انهار هذا الحاجز أمام إصرار الملك محمد السادس. حلوله الأخير في العاصمة الكوبية هافانا، والذي شكل في حد ذاته رسالة قوية، كان كفيلا بطي صفحة الخلاف. في 21 أبريل الجاري، أعلن رسميا عن عودة العلاقات بين هافانا والرباط، وأن إقامة سفارة للمغرب في العاصمة الكوبية هي مسألة وقت فقط .

الاستراتيجية الملكية كانت ناجحة في كوبا، كما كانت ناجحة في نيجيريا قبل ذلك، وزامبيا واثيوبيا، وتانزانيا وعديد دول أخرى. ومن خلال مراكمة النجاحات الديبلوماسية، يظهر العاهل المغربي مدى حزم مقاربة تدبير ملف الصحراء المغربية. وتتمحور هذه الاستراتيجية في عدم تجاهل الدول المؤيدة لجبهة البوليساريو، بل بالعكس، أصبحت هذه الدول هي أهم المحطات التي ينتقل إليها في رحلاته خارج الوطن. الدبلوماسية الملكية برهنت لزعماء وقادة الدول المستهدفة أنها انخرطت في النزاع حول الصحراء بطريقة خاطئة، وأنها طالما تصرفت من منظور ضيق يسقط باقي تفاصيل وحيثيات ملف الصحراء المغربية .

 

 

اهتمام عالمي

بالنظر إلى الدينامية الحفلى بالنجاحات المتسلسلة، أثارت شخصية الملك محمد السادس اهتمام خبراء العلاقات الدولية والمحللين الدوليين. ‘‘ بإعادة العلاقات مع كوبا، خطا المغرب خطوة مهمة في طريق تعزيز حضور المملكة في  أمريكا اللاتينية، في هذه الظرفية التاريخية التي تنفتح فيها دول الكاريبي على العالم ‘‘ تؤكد المحللة كلارا ريبيروس.منسقة مجموعة التفكير الكولومبي المتخصص في تحليل الشؤون السياسية والاستراتيجية في أمريكا اللاتينية تضيف ‘‘ المبادرة المغربية تعكس التصور الواقعي والحكيم الذي يميز الدبلوماسية المغربية وقائدها الملك محمد السادس ‘‘.

بدوره، نسج على منوالها المحلل الأرجنتيني أدالبيرتتو كارلوس اكوزينو في مقالة نشرتها وكالة الأنباء الأرجنتينية المستقلة ‘‘ طوطال نيوز‘‘ قائلا : المقاربة الدبلوماسية الناجحة للمغرب قلبت الموازين على الساحة الدولية. أكوزينو يرى بأن عودة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وكوبا ‘‘ مقاربة دبلوماسية مغربية ناجحة، زعزعت مخططات انفصاليي البوليساريو وسادتهم في الجزائر ‘‘.

الحمولة الاقتصادية للمقاربة الدبلوماسية الملكية استأثرت باهتمام الخبراء الدوليين أيضا. في هذا الصدد، نشرت مجموعة التفكير الأمريكية المؤثرة ‘‘ أتلانتيك كاونسيل ‘‘ مطلع هذا العام تقريرا قيما حول الآفاق الاقتصادية في افريقيا، أدرج فيها النموذج المغربي كقاطرة للتنمية، حري بالاقتداء. بيتر فام، نائب رئيس قسم الأبحاث والمبادرات الإقليمية في مجموعة التفكير ‘‘ اتلانتيك كاونسيل ‘‘ ومدير مركز افريقيا شدد على هذا المعطى بالقول ‘‘ من خلال مجهوداته لجعل المغرب منصة تجارية موجهة لافريقيا، مع الحفاظ على تعزيز مكانته كجسر بين أوروبا والقارة السمراء، فإن العاهل المغربي الملك محمد السادس تميز في بلورة استراتيجيته الافريقية، عبر رفعها إلى مستوى الأولوية القصوى في السياسة الخارجية للبلاد ‘‘.

الاستراتيجية الملكية تمحورت في استهداف مختلف مناطق القارة دون تمييز، يشدد بيتر فام، مذكرا بالزيارات الملكية الرسمية إلى كل من رواندا واثيوبيا ونيجيريا. ‘‘ هذه الزيارات توجت بالتوقيع على اتفاقيات تجارية بملايير الدولارات في مجالات عديدة كالفلاحة والطاقة والقطاع المالي، بالإضافة إلى الإطلاق التاريخي لمشروع أنبوب الغاز المغربي – النيجيري، الذي سيفتح المجال أمام أوروبا في شكل جديد من التموين الطاقي ‘‘.

 

 

سلاح السلام

في الوقت الذي تسعى فيه الجزائر وجبهة البوليساريو بكل الوسائل إلى إشعال أتون الحرب، يستلح المغرب وملكه بالإرادة القوية في تعزيز أسباب السلم في المنطقة. الجزائر والبوليساريو تلقيا درسا ملكيا آخر في 26 فبراير الماضي، بعد درس العودة إلى الااتحاد الافريقي من الباب الكبير، عندما شهدت المنطقة العازلة بالكركرات تصعيدا مفاجئا.

بحنكة كبيرة وفي احترام تام للشرعية الدولية، قرر المغرب بتوجيهات من الملك  محمد السادس رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية، الانسحاب من المنطقة العازلة، كرد على الاستفزازات الجزائرية والانفصالية. قرار، حظي بتقدير خاص من الأمين العام الأممي الجديد وعدد من كبار المسؤولين عبر المعمور. في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر، ثمن نائب كاتب الدولة في الدفاع ‘‘ دوف زاكهايم ‘‘ القرار الملكي .

‘‘ إعلان الانسحاب وجه آخر من أوجه المقاربة الخلاقة والجريئة تكشف عن حسن نوايا المملكة، ورغبتها في إيجاد حل سياسي ونهائي لقضية الصحراء ‘‘ يؤكد المسؤول الأمريكي السامي السابق، منوها بمؤشرات التقدم والتنمية التي تتوسع في الأقاليم الجنوبية تحت قيادة الملك محمد السادس. وفي تعليق عن مشروع الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية، قال زاكهايم، أن المقترح يشكل حلا سلميا واقعيا لنزاع عمر طويلا، كما أنه يشكل صلب مقاربة تتوخى تجنيب المنطقة أسباب عدم الاستقرار والفوضى . وختم ‘‘ دوف زاكهايم ‘‘ حديثه في الموضوع قائلا ‘‘ مقترح الحكم الذاتي يتميز بانفتاحه ودقة أهدافه، ويندرج في إطار رؤية، تحتم على المنظومة الدولية التطلع لفهمها  بشكل أكبر، وتتماشى في انسجام كامل مع كل ما حققة المغرب من إنجازات في أقاليمه الجنوبية ‘‘ .

للتذكير، مشروع الحكم الذاتي الموسع، المقترح الجدي  الوحيد، العقلاني والقابل للتطبيق على الطاولة كحل نهائي للنزاع حول الصحراء، حاصل على إجماع المنتظم الدولي . وهو نفس المنتظم الذي يعترف للمملكة بجهودها الكبيرة في مجال الوقاية و الحرب على الإرهاب . و في الوقت الذي تدفع فيه الظاهرة الإرهابية ومشاكل اللاجئين العديد من دول العالم إلى العزلة والانغلاق ، اختار المغرب الانفتاح كخيط رفيع لسياسته الخارجية .

لم يسبق للمغرب أن كان أكثر انفتاحا في عهوده السابقة نحو افريقيا أكثر من اليوم، غربا وشرقا، وتجاه شركائه التقليديين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وأصدقائه في مجلس التعاون الخليجي. كما انفتحت المملكة على شركاء جدد كالهند والصين وروسيا. والنتيجة، هي أنه في كل مكان حل فيه العاهل المغربي محملا برسائل التعاون المشترك والتنمية، سيستمر المغرب في تدمير حيطان العقد النفسية التي لا تعرقل العلاقات فقط بين البلدان، ولكن بين البشر أيضا .