ثقافة وفن

في آخر حوار أجراه بالمغرب الراحل عزت العلايلي يتحدث لـ "الأحداث المغربية"

بنعبد الله المغربي الجمعة 05 فبراير 2021
452539093
452539093

كانوا جميعا مع بعضهم يتجاذبون أطراف الحديث في فندق "المامونية"، وكان الوقت مساء. نور الدين الصايل نائب الرئيس المنتدب لمؤسسة مهرجان مراكش، وعادل إمام، وعزت العلايلي، ويسرا والمخرجة إيناس الدغيدي. كُنا نأمل أن نُحاورهم كلهم، لكنهم قالوا بأنهم يشعرون ببعض التعب ويصعب عليهم الإجابة بتركيز عن الأسئلة. انتظرنا بعض الوقت قبل أن نقنع الفنان عزت العلايلي بإجراء معنا الحوار التالي، الذي كان من المفروض أن يدوم خمس دقائق لكنه استغرق خمسا وأربعين دقيقة.

أستاذ عزت، أنت وجه محبوب في المغرب، وزرت مدنا مغربية في الكثير من المناسبات. ما هي في رأيك القواسم المُشتركة بين المغرب ومصر التي تجعلك تشعر بارتياح وأنت هنا بيننا؟

الشعبان المصري والمغربي يجمع بينهما الثقافة والتاريخ والدين والفن والعلوم وجميع ما يتعلق بالحياة اليومية. وأنا عندما أكون في المغرب، أكون في بلد غير غريب عن مرجعياتي وعن المناخ الاجتماعي والثقافي والفكري الذي نشأت وترعرعت فيه والذي نتجت عنه شخصيتي.

تُحاول مصر اليوم أن تستعيد هيبتها على المستوى السياسي بعدما تقلصت هيمنة الإخوان المسلمين بدرجة كبيرة. هل يمكن أن نقول بأن الأمور سائرة في الاتجاه الصحيح من الناحية السياسية، باعتبار أن الاستقرار السياسي يؤدي إلى الاستقرار الفني؟

الاستقرار السياسي لا يأتي إلا بعد معاناة. والسياسة هي تخطيط لدولة. ومصر دولة كبيرة لها حجم وازن في ريادتها وقيادتها للأمة العربية. فهي بلد الأزهر، وبلد المؤسسات، وبلد التاريخ ورموز التنوير من نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، من أيام محمد علي وحتى رفاعة الطهطاوي في النهضة العلمية وعبد الله النديم خطيب الثورة العُرابية وعلي باشا مبارك في النهضة العمرانية وقاسم أمين قائد نهضة المرأة العربية. وهي بلد أول برلمان عربي سنة 1866، وأول مسرح عربي سنة 1885، وبلد أول قاعة سينما سنة 1896، وبلد أول عرض سينمائي سنة 1909، وبلد أول دستور سنة 1923 بعد التحرر من الاستعمار التركي، وبلد الفرق المسرحية التاريخية منذ 1910 مثل فرق سلامة حجازي وجورج أبيض، وبلد أول شركة للتمثيل والسينما التي أنشاها طلعت حرب سنة 1934 وأعطت الانطلاقة لاستراتيجية الصناعة السينمائية، بالإضافة إلى كونها بلد الشخصيات الفنية والأدبية والعلمية والفكرية والفلسفية مثل سيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب لطفي السيد وزكي نجيب محمود وسلامة موسى، وعظماء آخرين لمشيدين. هذه العظمة التي تمتاز بها دولة كبيرة مثل مصر، لا يمكن أن تعوق سيرها نحو المستقبل عوائق من أي نوع. فالعقل المصري دائما يشتغل من أجل أن ينهض من جديد. مثلها مثل المغرب الذي يرتبط بها في كل هذه الأمور العظيمة التي ذكرت، ومثل باقي الدول العربية الأخرى التي لها معها روابط مشتركة وتجتمع معها في كيان واحد..

لكن هناك مشاكل سياسية واقتصادية تهدد الآن استقرار العديد من مكونات هذا الكيان العربي ومن بينها مصر.

صحيح أن هناك مشكل يتعلق بالتحول السياسي ويحتاج إلى وقت وإلى استراتيجية ينبغي أن نحط يدنا في أيدي بعضنا ونفكر فيها كلنا. فالبناء صعب جدا عكس الهدم. ونحن كنا دائما نبني وسنظل نبني حتى ترتفع مصر ونراها كما نريد.

كيف مر عليك العام الماضي في ظل حكم الإخوان المسلمين؟

لم يكن لدي أدنى شك في أن الشعب سيستعيد ما فُقد منه وأن الإرادة الشعبية الحقيقية ستكون بالمرصاد لما يحدث في مصر. وقد تحقق ذلك ربما في 30 يونيو لما خرج 35 مليون من الشعب المصري ليعبروا عن رفضهم للواقع القائم. وقد كنت أنا واحدا ممن خرجوا وشاركوا في هذه المظاهرة العظيمة، وكنت رفقة بنتي وحفيدي وابني الدكتور محمود العضو في حزب المصريين الأحرار، وكنا جنبا إلى جنب، وكان ذاك اليوم يوم فخر بالنسبة إلينا وبالنسبة إلى الشعب المصري.

لكن، هل استطاعت هذه المظاهرة العظيمة التي خرج فيها الشعب المصري يوم 30 يونيو أن تزيل الغمة عن مصر؟

طبعا لا يمكن أن تُزال الغمة بسهولة. فالأمور لازالت تحتاج إلى رؤية ثانية وإلى استراتيجية وصبر، وتحتاج أن يكون لديك هدف لكي تعرف ماذا تريد، لأن النهوض لا يكون بالانتهاء من مرحلة، بل ينبغي أن يكون الذهن دائما حاضرا ومستعدا ومُدركا لما يريد من المرحلة الجديدة.

عندما نجح محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، هل كنتم تعرفون أن الأمور ستسوء أم كان لديكم بعض الأمل في حدوث انفتاح وتوافق مع جميع أطياف الشعب من أجل إذابة الخلافات؟

لا. لم يكن هناك أي أمل على الإطلاق. فتاريخ جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن يدلك على ذلك. فأنا دارس لهذا التاريخ وأفهمه جيدا وكتبت في الستينيات عن الحركة الصهيونية التي كانت مدعمة بحركة الإخوان المسلمين مثل الآن بالتحديد. فقد كتبت حلقات تحت عنوان "اعرف عدوك" حول مصر في المرحلة من 1901 إلى 1936، مرورا بوعد بلفور سنة 1917 وبالثورة المصرية سنة 1919، وأشرت إلى ما كان يكتنف هذه المرحلة من تناقضات وسلبيات، وتطرقت إلى ما حدث بعد سنة 1928 عندما بدأ حسن البنا في الدعوة إلى تكوين جماعة الإخوان المسلمين.

لماذا في رأيك استطاعت هذه القوة الإسلامية المحافظة أن تتوغل داخل فئات من المجتمع المصري وأن تكسب تعاطفه وتنجح في الانتخابات؟

حنا كلنا مسلمون ولدينا الأزهر الذي نحتكم إليه في أمورنا الدينية. المسألة لا علاقة لها بالدين على الإطلاق. المسألة تتعلق بتوظيف الإسلام في السياسة وهنا تكمن الخطورة. المشكل في توظيف الإسلام بالطريقة التي تراها أنت، وليس كما هو في حد ذاته. فنحن ندين كلنا بهذا الدين العظيم وبقيمه ومبادئه ولا جدال في ذلك. لكننا نرفض أن يتم توظيف هذا الدين العظيم لفائدة جماعة معينة من أجل تحقيق مصالحها وأغراضها الخاصة.

شاركت أستاذ عزت في أفلام مؤثرة مثل "الأرض" و"السقا مات" و"الإسكندرية..ليه؟"، وربطتك بعادل إمام بعض الأعمال مثل "الإنس والجن" و"عيب يا لولو". متى وكيف حدث التقارب بينك وبين عادل إمام من الناحية الفنية.

كان ذلك بالضبط سنة 1960 حين بدأنا العمل مع بعض في فرقة مسرح التلفزيون. وفي سنة 1964 كتبت مسرحية تحمل عنوان "ثورة قرية" تتناول الواقع السياسي في شكل اجتماعي، وهي كانت في الأصل عبارة عن قصة قصيرة من صفحة واحدة في جريدة "أخبار اليوم" للأستاذ الكبير الراحل محمد التابعي، وكانت كلها مشحونة سياسيا، لأنه كانت لدي اهتمامات بالسياسة منذ بداية شبابي. وعادل إمام صديق عزيز جدا، ونحن أبناء جيل واحد، ولدينا نفس الطموحات والأحلام، والفن بالنسبة إلينا هو عبارة عن رؤية للمجتمع الذي نعيش فيه ونسعى من خلاله إلى احترام المتلقي وإلى كسب احترامه.

قلت أستاذ عزت بأنك كنت منشغلا بالسياسة منذ بداية شبابك. لكن مسار أي مفكر أو مثقف أو أديب أو فنان قد يعرف بعض التغيرات في المبادئ من مرحلة إلى أخرى وفق الطوارئ والمستجدات وقد تكون هناك تراجعات أو تنازلات أو تغيير كلي للأفكار والمبادئ. ألم تغير المراحل التي مرت منها مصر منذ شبابك قط من مبادئك وميولاتك السياسية؟

أنا مصري مولدا وتاريخا وعمقا وفكرا وأحلاما وقرآنا ويجيش في صدري كل ما يجيش في صدر المصريين. وكل مرحلة من المراحل التي مرت منها مصر كانت تعطيني قوة لكي أعبر إلى مرحلة أكثر نضجا وأكثر وعيا. وهذا ما أوجد لدي قناعة عظيمة جدا بتاريخ هذا البلد العظيم الذي ينتمي إلى أمة عظيمة جدا صاحبة التاريخ الضارب في أعماق الماضي السحيق بفكره وفلسفته وثقافته. فلا شيء استطاع أن يزحزحني قيد أُنملة عما أفكر فيه وعما أحلم به من نهضة لبلدي مصر وللأمة العربية.

دائما كان هناك نقاش يُثار في مصر حول مدى حدوث تقارب بين مصر وإسرائيل، وهما بلدان متماسان وشهدا حروبا طاحنة بينهما. هل يمكن أن يكون هناك تطبيع فني بين مصر وإسرائيل مثلا من خلال انفتاح الفنانين المصريين على الفنانين الإسرائيليين وإنجاز أعمال مشتركة بين الطرفين؟

لا لا لا... لا يمكن أن يحدث هذا على الإطلاق. فإسرائيل ستظل دوما عدوا لمصر وللمصريين.

كيف هي علاقتك بالسينما المغربية من خلال تعاملك معها؟

شاركت في فيلم من إنتاج مصري مغربي سنة 1979 هو "سأكتب اسمك على الرمال" يتناول موضوع المسيرة الخضراء من خلال قصة حب تجمع بين شاب وفتاة تعيش في الصحراء المغربية التي يقوم المستعمر بفصلها عن المغرب. والأكيد أنكم في المغرب لديكم تميز كبير جدا أحسدكم عليه، وهو قربكم من أوروبا، وإتقانكم للغات الأجنبية. فقد سبق لي أن شاهدت إنتاجات مُبهجة جدا وأسعدني أن يكون بلد عربي له فكر حديث ومتقدم، يهتم بالمهرجانات وبثقافات الآخرين، وقد حضرت في العديد من المهرجانات، في طنجة، وآسفي، والرباط، وهنا في مراكش، وفي موسم أصيلة الثقافي مع صديقي وحبيبي محمد بن عيسى.

وأنت في مهرجان مراكش الآن، ما هو إحساسك وأنت ترى أن مهرجان القاهرة الدولي قد انتهى أمره ؟

لا. لم ينته أمره بعد. فالظرف السياسي الذي مرت منه مصر هذه السنة هو الذي بالذات كان سبب عدم تنظيمه، واعتبر المنظمون أن هناك أولويات، علما أنني لست متفقا معهم في إلغاء دورة هذه السنة، ولست راضيا. لأنه في نظري، مهما كانت الظروف، ينبغي أن يُنظم المهرجان وألا يُؤجل، لأنه تظاهرة ذات منظور سياسي وثقافي وليس حفل عرس يمكن تأجيله بسبب طارئ ما.

في السنوات الأخيرة أصبح من الصعب الحديث مع مواطن مصري فنان أو غير فنان في شيء آخر غير السياسة. هل أصبح كل المواطنين المصريين ممتهني سياسة؟

نحن غير منفصلين مع العالم. ففي مختلف مناطق العالم هناك صراعات رهيبة جدا. وما نادت به كوندوليزا رايس من فوضى خلاقة هو ما أوصلنا إلى ما حدث في تونس، ثم في ليبيا، ثم في اليمن، ثم في سوريا، وهي فوضى لم أكن أعرف بأنها خلاقة (يضحك) إلا بعدما تركت وراءها كل هذا الدمار. كل هذه الفوضى التي يريدون أن يخلقوا من خلالها مجتمعا على مزاجهم، وكل هذه الاتفاقيات الغريبة، بما فيها الاتفاق الأخير بين أمريكا وإيران، تحدث بسرعة مهولة أمام عينيك وفي ظرف وجيز. وهذا ما يجعل المواطن منغمرا في الأحداث ويتحول إلى كائن سياسي بقوة ما يراه في حياته اليومية بشكل متسارع.