ثقافة وفن

دافقير يكتب: دستوران في بلاغ واحد

أسامة خيي الاحد 19 مارس 2017
slide1
slide1

AHDATH.INFO- خاص - بقلم: يونس دافقير

انتظرت بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ساعات طويلة، كنت أخمن ما الذي سيتخذه الحزب من موقف خصوصا أمام الثقل الرمزي والمعنوي الذي يتمتع به عبد الإله بن كيران وسط التنظيم الذي أنشأه ورعاه ورباه حتى أوصله إلى ما هو عليه اليوم من تموقع في المشهد السياسي الوطني.

كنت متخوفا وأنا أستحضر وسط وجع الانتظار، تلك الأجواء «الحربية» التي خلقها بعض نشطاء الحزب حول مشاورات تشكيل الحكومة وقذائف «التحكم واستقلالية القرار الحزبي» التي يتم تصويبها في كل اتجاه.

توقعت أن يتجاوب الحزب مع بلاغ الديوان الملكي، وانطلقت في ذلك مما أعرفه عن الحزب من براغماتية عالية ومهارات مصقولة في تدبير الأزمات وحسن الانحناء لما قد يتعرض له من عواصف.

غير أني لم أستبعد أيضا ذاك الخيار الآخر في أجواء سياسية وحزبية متوترة: أن يعلن الحزب اعتذاره عن قبول التكليف الملكي، وتدخل البلاد في متاهات سياسية ودستورية جديدة.

ولم يشف عبد الإله بن كيران غليلي في حدود الساعة الثالثة زوالا من أول الخميس حين عقد لقاء صحفيا مصغرا قال فيه إن الأمانة العامة قررت تقريبا بإجماع أعضائها التجاوب الإيجابي مع بلاغ الديوان الملكي، خصوصا حين أحالنا السيد الرئيس المعفى من مهامه على البلاغ الذي ستصدره الأمانة العامة «بعدساعة أو ساعتين أو بضع ساعات».

وانتظرت إلى حدود منتصف الليل، حين قررت أن ألج لآخر مرة، وقبل الاستسلام للنوم إلى الموقع الرسمي للحزب بحثا عن تلك الوثيقة التي ينتظرها الجميع.

بدا البلاغ لأول مرة مطولا نسبيا، لكنه أراحني منذ الوهلة الأولى حين شدد على نفس ما صرح به ابن كيران: حزب العدالة والتنمية يعبر عن اعتزازه «بما ورد في بلاغ الديوان الملكي من تأكيد لحرص جلالة الملك على توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكاسب التي حققتها بلادنا في هذا المجال، واختياره الاستمرار في تفعيل مقتضياته المتعلقة بتشكيل الحكومة من خلال تكليف شخصية من حزبنا بصفته الحزب المتصدر للانتخابات وترجيحه هذا الاختيار على «الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص  وروح الدستور».

ولا أخفي سرا إن قلت إن هذا الموقف أطربني سياسيا، أنا الغيور على وطني واختياره الديمقراطي واستقراره السياسي.

وزاد من إمتاعي أكثر حين حافظ على ذاك التقليد الديمقرطي الجديد في حياتنا السياسية، حيث تتناقش الأحزاب مع المؤسسة الملكية دون حرج أو مركب نقص، وفي إطار الاحترام التام لقواعد اللياقة والتوقير الضروري لمؤسسة الملك.

وأنا أقرأ بلاغ الأمانة العامة تذكرت بلاغ الديوان السياسي للتقدم والاشتراكية الذي عقب على بلاغ الديوان الملكي حين اتهم نبيل بنعبد الله بترويج «خطاب التحكم» لأهداف انتخابية.

ومع ذلك لم تنقطع الصلات بين شيوعي الأمس والقصر الملكي، ورأينا كيف كان نبيل بنعبد الله يجلس إلى طاولة الملك في حفل عشاء رسمي بالكوت ديفوار غير بعيد عن الملك محمد السادس وأمام المستشارفؤاد عالي الهمة مباشرة.

وقلت إن بلاغ العدالة والتنمية يكرس هذا العرف في النقاش الراقي بين المؤسسات ، ومهما كان اختلافي مع الحزب في التقدير، ابتهجت حين رأيته يدافع عن أمينه العام ويبرئه من مسؤولية «البلوكاج» الحكومي.

وزاد منسوب النقاش الديمقراطي بين مؤسسات بلدي حين قال حزب العدالة والتنيمة إن « المسؤولية عن ذلك ترجع إلى الاشتراطات المتلاحقة خلال المراحل المختلفة من المشاورات من قبل أطراف حزبية أخرى، مما جعل تشكيل حكومة تتوفر فيها مواصفات القوة والانسجام والفاعلية كما ورد في الخطاب الملكي لدكار متعذرا، وتعتبر أن مثل تلك الاشتراطات هي التي ستجعل تشكيلها – في حالة استمرارها-متعذرا أيا كان رئيس الحكومة المعين».

لقد جعلني البلاغ  في قلب الروح الديمقراطية لدستور 2011 تماما كما هو الشأن بالنسبة لبلاغ الديوان الملكي الذي أبدع في الانتصار للدستور وصناديق الاقتراع لدرجة الروعة التي لم تدع مجالا للطعن في الشرعية الدستورية لسحب التكليف من ابن كيران.

لكن، وفي هذا الاستدراك دائما تختبئ تفاصيل الشيطان وغواياته.

فقبل أن أختتتم قراءة  البلاغ ، صدمتني جملة في آخر سطر من فقرته ما قبل الأخيرة، وذلك حين يقول بالحرف في معرض تأكيده على أن المشاورات القادمة يجب أن« تحظى الحكومة المنبثقة عنها بثقة ودعم جلالة الملك».

هكذا وفي رمشة عين ينتقل بي بلاغ الأمانة العامة من منطق دستور 2011 إلى المنطق الدستوري الذي كان يتضمنه دستور 1996

وفهمت أن العدالة والتنمية يريد تعاقدا بينه وبين المؤسسة الملكية لتشكيل الحكومة الجديدة.

وفهمت أيضا أن العدالة والتنمية يرى في الملك طرفا للتعاقد داخل الحقل الحزبي، وليس رئيس دولة صلاحياته الدستورية محددة بدقة وعلى سبيل الحصر.

وأوحى لي البلاغ في هذا المقطع بأن باقي الأحزاب يجب فقط أن توفر الأغلبية للحزب الأول في الانتخابات، وأن يضمن الملك شخصيا استقرار هذه الحكومة ونجاحها.

والحال أن الملك رئيس دولة يعين الحكومة ويعفي وزراءها ويرأس مجلسها الوزاري، ولا يضمن الحكومات.

وقد نسي مدبجو البلاغ ربما أن الملك رفض أن يعرض عليه أول تصريح حكومي لابن كيران للمصادقة عليه في المجلس الوزاري قبل عرضه على البرلمان. ولم يفهموا حينها أن التقاعد يكون بين الحكومة والبرلمان ولا دخل للملك فيه.

ويعيدنا منطق بلاغ العدالة والتنمية إلى سنوات التسعينات وإلى لغة أزمنة التناوب التوافقي، حيث كانت الانتخابات مزورة، وأحزاب الحركة الوطنية لا تتوفر على الأغلبية، وحين طلب منها المشاركة في الحكومة لإنقاذ المغرب من السكتة القلبية أولتسهيل انتقال العرش، كانت تطلب ضمانات الملك.

كانت تفعل ذلك لأنه لم يكن لديها الدستور الذي نحتكم إليه الآن، ولأن الحكومة كانت تنصب وتباشر مهامها بمجرد تعيينها من طرف الملك ولا حاجة لها بثقة البرلمان.

لكن الزمن تغير الآن، الحكومة لا تصبح منصبة دستوريا إلا بعد حصولها على ثقة مجلس النواب،

ومن يدعم الحكومة هو أغلبيتها في البرلمان.

والثقة تأتيها من صناديق الاقتراع ومن مجلس النواب صاحب الولاية العامة.

وما يبحث عنه العدالة والتنمية يعني أن يتدخل الملك مثلا لمنع البرلمان من صلاحياته في إسقاط الحكومة. ويعني أيضا أن يصادر حق الأحزاب المشاركة في الحكومة من الانسحاب منها. هو منطق أعرج وغير سوي من بدايته إلى نهايته.

لكن يبدو أن العدالة والتنمية يريد الاشتغال بدستورين، واحد لـ«التفويض الشعبي» وآخر ل«التحكم المشروع» هذه المرة حسب فقهاء الدستور الإسلاميين. والحزب الذي بنى كل إخفاقاته وتوتراته على خطاب «التحكم» هو نفسه اليوم يطالب بتحكم دستوري عبر بوابة «ثقة ودعم جلالة الملك».

هو منطق خاطئ، الملك مثلما لا يقوم بالتحكيم بين الأحزاب، لا يضمن الحكومات أيضا، لأنها تبقى في نهاية المطاف نتاج مسارات حزبية يكتفي الملك بأن يقوم بتسميتها بدون التدخل في صراعات أحزابها.

وعبارة «أن تحظى الحكومة بثقة ودعم جلالة الملك» حشو سياسي لا علاقة له بالمتن الدستوري.خصوصا حين يقول بلاغ الأمانة العامة إن «المشاورات القادمة وجب أن تراعي المقتضيات الدستورية والاختيار الديمقراطي والإرادة الشعبية»