أرقت الأمن الفرنسي وأشعلت المدينة.. كيف دخل رجال حموشي على خط الحرب في مارسيليا؟

عبد المجيد حشادي الجمعة 22 مارس 2024

بدأت فرنسا تجني ثمار تحولها نحو التطبيع الفعلي لعلاقاتها مع المغرب، فكانت أولى هذه الثمار كنز كبير يتمثل في اعتقال الأمن المغربي لأحد أكبر رؤوس المافيا في مدينة مارسيليا، والذي طالما روع المدينة الثانية في فرنسا من حيث عدد السكان، وحولها إلى مدينة شبيهة بمدن أمريكا اللاتينية، بسبب الصراع الدامي بين عصابتين شكلتا صداعا حقيقيا، وعلى مدى سنوات، لأجهزة الأمن الفرنسية.

كانت سنة 2023 حافلة في مدينة مارسيليا الجميلة، العام المنقضي كان حافلا برقم مميز رصدته أجهزة الأمن ووقفت أمامه عاجزة عن القيام بخطوة تحد من خطورة ما أصبح جميع سكان المدينة يتابعونه، ليس فقط من خلال الأخبار، بل أيضا من خلال مشاهدات على الهواء تنقلها بعض الصفحات لعمليات إطلاق رصاص في شوارع المدينة، شبيهة بما يحدث في بعض أفلام هوليود.

الرقم المميز للسنة الماضية هو الرقم 49، وهو لا يحيل على أحد سائقي السيارات المشاركة في الراليات المثيرة بسرعتها، بل هو رقم عدد القتلى الذين سقطوا صرعى برصاص عصابات المافيا، في حوادث إطلاق نار في إطار تنافس شرس بين عصابتين هما مافيا «بودا» ومافيا «دي - زيد»، لدرجة وصف الأمن هذه الحرب بكونها جعلت مدينة مارسيليا رهينة في أيادي العصابتين المتنافستين.

لكن 8 مارس الماضي كان يوما مشهودا لدى الأمن الفرنسي، فاليوم الذي يحيل على الاحتفال بعيد المرأة كان أيضا مناسبة لاحتفال الأمن الفرنسي، بحدث بارز وقع في المغرب، ودفع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، للإسراع ونشر تغريدة نصر على موقع «إكس»، قال فيها: «تم في المغرب القبض على أحد أكبر تجار المخدرات في مارسيليا ».

بل أكثر من ذلك عبر المسؤول الفرنسي عن سعادته البالغة بهذا الإنجاز، وقال «برافو لضباط الشرطة الذين يواصلون بلا كلل مكافحة تهريب المخدرات»، في إشارة إلى العمل الجبار الذي أبان عنه جهاز الأمن المغربي مجددا، وتعبيرا عن فاعلية هذا الجهاز، والتي تأكدت دوليا، لتنضاف فرنسا إلى القائمة التي شملت العديد من الدول الرائدة في المجال الأمني، والتي سبق أن سارعت للتعاون مع الجهاز الأمني المغربي، والاعتراف بكفاءته العالية.

من هو الزعيم المافيوزي المعتقل بالمغرب؟

كثفت مصالح الأمن المغربي من عملها في الأسبوع الأول من شهر مارس الحالي.. كانت المعلومات تفيد إمكانية تواجد مافيوزي خطير فوق التراب المغربي، مبحوث عنه على الصعيد الدولي بموجب نشرة حمراء صادرة عن المنظمة الدولية للشرطة القضائية الأنتربول، متهم في العديد من جرائم القتل والتهريب الدولي للمخدرات وتبييض الأموال.

وجود المتهم في النشرة الحمراء، جاء بناء على مطالبات من فرنسا، التي تطالب برأسه لتورطه في العديد من القضايا وظل بعيدا عن أيديها، حيث تحركت عناصر مصلحة الأبحاث والتدخلات التابعة للفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وانتشرت في العديد من المناطق التي يشتبه أنه قد يكون قد لجأ إليها.

وفي سياق عملية أمنية دقيقة استهدفت رصد وتتبع جميع الأماكن المحتملة لاختفاء المطلوب الفرنسي بعد مدن مغربية، نجحت عناصر مصلحة الأبحاث والتدخلات في تحديد مكانه بمدينة الدار البيضاء التي لجأ إليها، وفي الوقت المحدد استطاعت الفرقة من مباغتته والقبض عليه، في عملية شكلت جانبا آخر من جوانب حرفية الأمن المغربي، حيث تم تحييده بذكاء وإلقاء القبض عليه دون مواجهة تذكر.

ومكنت هذه العملية المغربية من وضع حد لمسار حافل لمتهم خطير مبحوث عنه كأحد أكبر المطلوبين في مارسيليا، والذي سطر في حقه قاضي التحقيق في مارسيليا مذكرة توقيف من أجل صك اتهام طويل يشمل عددا من التهم، من قبيل إدارة عصابة منظمة واستيراد المخدرات والاحتجاز والحيازة ونقل المخدرات وغسل الأموال...
وسلطت هذه العملية الضوء عن شخصية فيليكس بنغي، كما أعادت إلى الأذهان اسم تنظيمه الإجرامي عصابة «مارسيليا يودا» التي كان يتزعمها، والتي دفعت كذلك بالمدير العام للشرطة الفرنسية فيدريك فو، للإسراع والاتصال بالمدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني عبد اللطيف حموشي لشكره وتثمين حنكة الأمن المغربي، وفتح الحديث عن إمكانية التعاون في القضايا الأمنية بين البلدين مستقبلا.

مافيا دزايرية بامتياز


شكل وضع حد لزعيم تنظيم «مرسليا يودا»، والذي ينتظر أن يتم ترحيله لفرنسا، بعد القيام بالإجراءات الضرورية لعمليات الترحيل مناسبة لتحرك الأمن الفرنسي، حيث قام بعمليات اعتقال لعدد من الأفراد المحسوبين على تنظيمه الإجرامي، وتأكد اعتقال 13 متهما حتى الآن، مرتبطين بهذه المافيا المارسيلية، حيث نقلت وسائل إعلام فرنسية، تنفيذ المكتب المركزي لمكافحة الجريمة المنظمة التابع للشرطة القضائية لعمليات مداهمة واعتقال.

وجاء هذا التحرك لتسليط الضوء على العديد من الجرائم المرتكبة في إطار الصراع المشتعل بين مافيا مارسيليا «يودا»، ومافيا «دي - زد»، والتي تصل مداخيلها اليومية لحوالي 80 ألف يورو، كما أسقطت العديد من القتلى، كان آخرهم مقتل عضو في مافيا «يودا» في يناير 2023، بعد استهدافه بنيران كلاشينكوف من قبل ثلاثة متهمين في إسبانيا.

كما لايزال سكان المدينة الجميلة يتذكرون عددا من عمليات التصفية التي تمت بين أعضاء العصابتين، واحدة منها جرت في وضح النهار قتل خلالها شاب في السادسة والعشرين من العمر بدم بارد، حيث تم نقل مشاهد المطاردة والتصفية على مواقع التواصل الاجتماعي، وشكلت مادة دسمة لحديث سكان المدينة الذين أعلنوا غير ما مرة عن تبرمهم من عجز رجال الشرطة عن وضع حد لهذا الإجرام.

الضحية كان واحدا من عدد من الضحايا الذين سقطوا في عمليات مماثلة في عدد من المناطق بالمدينة، أبرزها وقعت بالدائرة 14، التي سجل بها ما يقرب من نصف الوفيات المعلنة، حيث يوجد بهذه الدائرة حي «لاباترنيل» المشهور ببيع المخدرات، والمتواجد بالقرب من الطريق السريعة التي تربط جميع المناطق الرئيسية ببعضها، مما يوفر الإمكانية لإيصال السلعة من البائع للمستهلك بمرونة.

في روبورتاج لقناة فرانس 24، قبل حوالي 5 أشهر، رصدت القناة أن الحي المذكور يتميز بمنازله الحمراء متعددة الطوابق، والذي اعتبرته موقع استراتيجي لتجار المخدرات، خاصة عصابتي «مارسيليا يودا»، ومافيا «دي - زد»، اللتين يشن أفرادها حربا بلا رحمة لاحتكار العمل في المنطقة.

وعصابة «مارسيليا يودا» استلهمت هذا الاسم من أشهر شخصيات سلسلة حرب النجوم، والتي أصبحت شعارها الذي تتبجح برسمه على العديد من جداريات الحي، حيث تظهر وهي تدخن القنب الهندي، بينما تقوم العصابة الثانية «دي - زد»، نسبة لدزاير أي الجزائر، حيث تقوم في العديد من نقط انتشارها برسم حيوان الفينك، أحد شعارات الجزائر.

ويتزعم العصابتين رجلان أحدهما يدعى "مهدي. آ. ل" يبلغ من العمر 32 سنة، وهو الذي يدير مافيا الجزائر«دي - زد»، والمعروف بمشاركته في 3 جرائم قتل على الأقل، بينما يتزعم مافيا «مارسيليا يودا»، فيليكس بنغي، والذين أدين في 2019 بتهمة التآمر الإجرامي وحيازة الأسلحة، حيث كانا في السابق يعملان سوية وضمن تحالف واحد، لكن لغة المصالح في يناير 2023، دفعت لحدوث خلافات بينهما، كانت سببا في تحولهما من التحالف للمواجهة المسلحة وحرب الشوارع.

حرفية في الترويج والتجنيد

نقلت القناة الفرنسية معلومات عن توصل الشرطة لطريقة تجنيد الأعضاء في تنظيمي المافيا، حيث عاينت رسائل آمنة تبعث للراغبين في الانضمام للعصابة، من خلال نموذج إعلان يحدد المهام المطلوبة والسعر المحدد، وعرضت القناة نموذج لإعلان يحدد أجر المسؤول عن الإبلاغ بوصول رجال الأمن في مبلغ 150 يورو لليوم الواحد، وأجر البائع في 300 يورو لليوم الواحد، وأجر مسير العملية في 400 يورو، كل ذلك مع توفير السكن والأكل بالمجان.

ويكلف المجندون الجدد ببيع البضائع مثل الحشيش وباقي المخدرات الأخرى، ما يكشف عن حرفية كبيرة في عمل العصابتين، والذي يتجاوز هذا المستوى، لدرجة أنهما يعمدان إلى وضع ملصقات على هذه المخدرات تشير للجهة البائعة في تحد كبير للشرطة، حيث عاينت القناة فيديوهات لمخدرات عليها شعار مافيا «يودا»، بينما تحمل مخدرات «دي -زد» رموز الاستجابة السريعة، والتي تمكن عند مسحها ضوئيا من تحديد قائمة المخدرات التي تروجها العصابة وأسعارها، حيث تورد القائمة مثلا أن سعر الكوكايين 60 يورو للغرام الواحد.

ولحماية تجارتهم واحتكار السوق بالمنطقة، يعمد زعماء العصابتين للقيام بكل ما يمكن تخيله، حتى لو أدى بهم ذلك إلى استئجار قتلة محترفين لتصفية خصومهم، حيث نقلت القناة فيديو لشاب يعرض خدماته للقيام بعمليات تصفية مقابل الأموال، حيث تعتقد الشرطة أنه وراء عمليات تصفية سجلت في حق أربعة أشخاص في عدة مناطق من المدينة.

اعتقال المتهم لاحقا كشف أن العقد الذي كان يضعه يحدد أسعار عمليات القتل، حيث يحدد تعويضاته لقتل شخص واحد في 7000 يورو، وشخصين في 14000 يورو، معلنا أن مجال عمله هو الدائرة 13 بالمدينة، كما عرض صورا لنوعية الأسلحة التي يستخدمها في تنفيذ عمليات التصفية هذه، والتي تستقدم من يوغوسلافيا والصين.

وتكشف هذه الحقائق كيف تحولت مدينة مارسيليا إلى معقل حقيقي لتجار المخدرات، خاصة مافيا دزاير، التي يتردد كثيرا زعيمها على الجزائر ولا يستبعد ارتباطه بأجهزة أمنية هناك، خاصة وأنها تضم جزائريين من الجيل الثالث الذي يعيش بالمدينة، كما تتبجح بإعلان شعار الجمهورية وكذا حيوان الفينك، الذي يرمز لها في تحد كبير لأجهزة الأمن الفرنسية.

سقوط زعيم التنظيم المافيوزي بالمغرب أعاد تسليط الضوء على هذه المافيات التي اختطفت مدينة مارسيليا وزرعت فيها الرعب لسنوات، ويبدو أن الوقت حان لدفع الحساب، حيث عادت أجهزة الأمن الفرنسية لتكثيف مطاردة عناصر الشبكتين، وربما تكون الضربة المغربية بداية لنهاية وضع استثنائي في المدينة الجميلة بالجنوب الفرنسي.