الكتاب

عرش الملك في طائرته

طه بلحاج الجمعة 13 مايو 2016
عرش الملك في طائرته
SM-LE-ROI-CHINE4

AHDATH.INFO- بقلم يونس دافقير

يبدو لي الملك محمد السادس واحدا من كبار  قادة الدول الذين حطموا الرقم القياسي في السفر عبر الطائرة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، وإذا احتسبا على الأقل سفرياته الديبلوماسية منذ نونبر 2013 حيث زار واشنطن سنجد أنه قطع آلاف الكلمترات متنقلا عبر المحيط الأطلسي في اتجاه القارة الأمريكية والافا أخرى في جولته بالبلدان الإفريقية، كما عبر الأجواء الأوربية في اتجاه روسيا، وفي الأجواء الأسيوية أجرى رحلتين للمسافات الطويلة إلي كل من الهند والصين، ويمكن للمتخصصين في الجغرافيا أن يضيفوا إلى هذا الرقم الضخم من المسافات تلك الألوف الأخرى من الكلمترات التي قطعها بين الرباط وبلدان الخليج العربي.

ولو عاش معنا اليوم المغاربة الأولون الذين علقوا على سفريات السلطان الحسن الأول، في أطراف المغرب خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر دفاعا عن سيادته ووحدته  بالقول إنه «ملك كان عرشه على صهوة جواده»، لغيروا العبارة والتوصيف في القون الواحد والعشرين ليجعلوها تفيد اليوم أن «عرش الملك يوجد في طائرته» التي تسافر في أجواء القارات الخمس من أجل نفس الغايات وبدافع من ذات التهديدات.

وليس فيما أقوله اجترار للأدبيات السلطانية، فحقائق التاريخ تفيد أن الحسن الأول كان صاحب مشروع لإدخال المغرب إلى نادي الدول المتقدمة في عصره، لكنه واجه أطماع القوى الدولية التي أرادت ضم المغرب إلي نادي الدول المستعمرة، فاشتد عليه الطوق الفرنسي والإسباني في شرق البلاد وشمالها وجنوبها، وطيلة الثمانية عشرة سنة التي قضاها في الملك (1877-1894 ) كان لا يستقر في عاصمته إلا ناذرا محاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سيادة ووحدة ترابية، حتى قيل عنه إنه «ملك كان عرشه على صهوة جواده».والتاريخ نفسة يتكرر اليوم مع الملك محمد السادس، في البلد طموح لولوج نادي الدول الصاعدة مرفوق بمحاولات للإصلاح قد تصيب وقد تخطئ، وفي النوايا أيضا رغبة في استعادة الزعامة الإقليمية المحفوظة في أرشيفات التاريخ، لكن هناك كذلك مشاريع التجزئة والتقسيم التي تتربص ببلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والنقاشات الأخيرة في مجلس الأمن حول نزاع الصحراء أبانت عن أن قوى دولية كبرى ترعى من خلف الستار المشروع الإنفصالي في الجنوب المغربي.

وإلى حدود سنوات قليلة ماضية ، وخاصة بعد زوابع الربيع العربي بقليل، اعتقدنا هنا في المغرب أن حماية استقرار البلد ووحدة أراضيه يمكن أن تتم ببناء نموذج ديمقراطي متميز في المنطقة، وبالبحث عن مصادر الثروة التي من شأنها أن تقلص مساحات الفوارق الاجتماعية، واتجهنا أيضا إلى إعادة النظر في نموذجنا الاقتصادي كي يصبح تصنيعيا أكثر منه فلاحيا أو سياحيا، وقدمنا للعالم نموذجا متفردا في الإسلام المعتدل المنفتح على العصر وعلى الآخر المختلف معه دينيا، بل وأصبحت مرجعية إمارة المؤمنين في المغرب ملاذا لبدان صديقة من إفريقيا أو أوربا و شمال إفريقيا تريد استلهام تجربتنا في حماية العقول من التطرف والإرهاب.

غير أن كل ذلك لم يشفع لنا لدى من كنا نعتبرهم حلفاءنا التقليديين كي يدعمونا في وحدة أراضيا وسيادتنا الوطنية، ووجدنا منهم من يبرم الصفقات في المشرق والمغرب رعاية لمصالحه على حساب حقوقنا العادلة، وفجأة ومن دون مقدمات وجدنا أنفسنا مطالبين بالقطع مع شعار «تازة أقرب من غزة»، وأن ندخل لعبة التحالفات الدولية المعقدة من أبوابها الواسعة، بعدما وجدنا أن التطورات الجيوسياسية للعالم قد جعلته متعدد الأقطاب، وأن حماية مصالحنا الوطنية في مواجهة قوى التجزئة والتقسيم، تتطلب منا تنويع الشركاء وجعل تحالفاتنا أكثر توازنا وتوفر أكثر من منفذ استراتيجي.

واليوم نخوض رحيلنا نحو الشرق، نطرق أبواب روسيا والهند والصين دون أن نقطع شعرة معاوية مع حلفاءنا التقليديين في باريس ومدريد وواشنطن، ونزيد من تقوية ارتباطنا العضوي ببلدان الخليج العربي في الوقت نفسه الذي نسعى فيه إلى خلق تكتل إفريقي وازن، ولأجل ذلك نرى الملك محمد السادس يقطع آلاف الكلمترات، من قوة دولية صاعدة إلى أخرى، وأحيانا حتى دون العودة إلى البلد كما حدث في السفر الملكي الأخير من الإمارات إلى الصين مباشرة.

والأكيد أن الخطاب السائد في لقاءاتنا في روسيا والهند والصين والخليج هو تقوية الشراكات الاستراتجية في المجال الاقتصادي، لكن ذلك ليس غاية في حذ ذاتها، بالطبع نسعى إلى جني ثمار فرص الكسب المتاحة على قاعدة المقولة التقنقراطية الجديدة «رابح-رابح»، سوى أن الهدف الأكبر هو توظيف المصالح المادية المشتركة مع الحلفاء الجدد في الحصول على مردودية سياسية وديبلوماسية تسعفنا في مواجهة مشاريع التجزئة والتقسيم في جنوبنا المغربي.

وكما تذكرت الحسن الأول وأنا أتابع ديبلوماسية الملك محمد السادس الذي صار عرشه في طائرته، تذكرت أيضا ما سبق وكتبه الأستاذ محمد عابد الجابري عن قيادة جيوش الملسمين كأحد مقومات إمارة المؤمنين، فإذا كانت القاعدة قبل القرن السادس عشر أن المتزعم لحركة الثورة ضد الدولة القائمة يُبايع بعد أن ينتصر بقوة السلاح، فإن تأسيس الدولة السعدية كان على العكس من ذلك، أي نتيجة مُبايعة الناس لأحد رجال الدين والعلم، ولمُهمة أساسية هي قيادة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأجنبي والضغط العثماني. مما جعل منه حقا «أمير المؤمنين» أي قائدا لجيوش المسلمين، كما يقول الجابري.

وأظن أن الملك محمد السادس، في هذه المواجهات الديبلوماسية التي يخوضها المغرب اليوم، لا يكتفى بأن يعتبر نفسه أميرا للمؤمنين بحكم النسب الشريف، ولا بمرجعية الثوابت الدستورية فقط، إنه يضيف إلي ذلك شرعية الإنجاز الديبلوماسي التي تجعله اليوم قائدا لجهازنا الديبلوماسي، وقد تجعله التطورات العسكرية غذا قائدا ميدانيا لحروب قواتنا المسلحة، وفي جميع هذه الحالات قد تكون رئيس دولة أو حكومة، لكن ليس سهلا أن تكون ملكا، وقد نقل المستشار الملكي  الراحل أحمد بنسودة عن الحسن الثاني قوله ذات يوم :« إن من يتخذ هذا الموقف العدائي ضد بلدي حر في اتخاذ قراره، لأنه إنما يصدر في قراره عن دافع شخصي متعلق به وبالمدة التي سيقضيها على كرسي المسؤولية، أما أنا فعندما أريد أن أتخذ قرارا أعرضه على ماضي آبائي وأجدادي وتاريخ وطني كله، وأرى هل يتفق ذلك القرار مع أمجاد آبائي وعظمة بلادي، فإن رأيت ذلك مطابقا، أعرض قراري على مستقبل وطني وعلى من سيتحمل المسؤولية من بعدي، وأتساءل هل سيكون لقراري ّأثر إيجابي أو سلبي على المستقبل. لذلك فإني حينما أتخذ قرارا أستفتي فيه الماضي والحاضر والمستقبل، ولا أبقي لحريتي الشخصية في القرار إلا قدرا من التصرف، أستعمل فيه نفسي وفكري واجتهادي وتحليلي بهدوء وروية. إن الآخرين تبتدئ مسؤوليتهم وتنتهي بالمدة التي يقضونها في الحكم أو في الحياة، أما أنا فإنني مطوق بماض عمره مئات السنين وبمستقبل عمره مئات أخرى من السنين».